عطية مسوح
لا يندر أن يحضر أحدنا محاضرة ذات عنوان مهمّ، لباحث مرموق مشهود له بالقدرة البحثيّة والتعمق في مواضيع بحثه، أو لمفكر جاد عميق النظر، فيخرج من تلك المحاضرة بشيء من خيبة الأمل، لأن المحاضرة لم تأتِ على المستوى الذي كان يتوقعه، ولم تتناسب جودتها مع ما للمحاضر من مكانة علميّة وفكرية. وقد يصل المستمع إلى أن هذا الباحث القدير الذي أفاده بأبحاثه، وأقنعته بما طرحه فيها من أفكار، كان محاضراً فاشلاً أو قريباً من الفشل، فقد أفلتت من يده خيوط الموضوع الذي يحاضر فيه، فجاءت محاضرته أفكاراً مبعثرة لا ترابط بين أوصالها، أو أطروحات غامضة، أو أحكاماً قاطعة لا تفتح أفقاً ولا تستتبعُ حواراً.
وليس غريباً أن يترافق ذلك بقليل أو كثير من الملل والشرود عند بعض المستمعين، إذا أفلتت خيوط الزمن أيضاً من يد المحاضر، فأطالَ وأكثرَ
وكرّر.
ولعلّ المواظب على حضور المحاضرات، يستنتج أنّ المحاضرة فنّ من فنون الأدب أو نمط خاصّ من الأداء الفكريّ، ومن ثم، ليس كلّ باحث محاضراً ناجحاً، فللمحاضرة شروطها وخصائصها، وللبحث خصائصه، ولعلّنا نوجز ذلك بنقاط
محدّدة.
1– الفرق في الحجم، فزمن المحاضرة في أيّامنا
لا يجوز أن يتجاوز نصف الساعة، أو أكثر أو أقلّ بدقائق، والمحاضر قليل الخبرة هو الذي يحتاج إلى زمن أطول، وهذا يعني أن يضع المحاضر في ذهنه، ثمّ على الورق، عدداً محدّداً من الفِكَرِ، بترتيب يختاره، ويناقشها مناقشة مركّزة بغير إطالة، ويصل بين الفكرة وتاليتها وصلاً مقنِعاً، فتترابط فِكَرُ المحاضرة في سياق معيّن، ومن الضروريّ أن يوزّع المحاضر الزمن المخصّص لمحاضرته بين الفِكَر توزيعاً دقيقاً يتناسب وأهمّيّة كلّ فكرة وصعوبة فهمها، آخذاً بالحسبان مستوى الحاضرين الفكريّ، مفترضاً المستوى المتوسّط في معظم الأحيان. أمّا البحث فقد يكون بضع صفحات، وقد يطول فيصبح كتاباً، فالزمن ليس عنصراً من عناصر جودة البحث أو رداءته، بل إنّ حساب الزمن في البحث لا قيمة له.
2– المحاضرة الجيّدة هي التي تثير المناقشة وتدفع إلى الحوار، والمحاضر المتمرّس هو الذي يُعوّل على الحوار أكثر ممّا يعوّل على طرح الأفكار، بل إنّه يطرح الأفكار بطريقة تثير الحوار، ومن ثم، يمكن القول إنّ أحد مقاييس نجاح المحاضرة هو مقدار ومستوى ما يتلوها من حوار، إنّ هذه النقطة التي هي غاية من غايات المحاضرة ليست غاية من غايات البحث، فالباحث يسعى إلى أن يكون كلّ ما يقدّمه مفهوماً ومقنعاً وواضحاً (ومُسنداً عند الضرورة) من غير حاجة إلى أسئلة مباشرة وحديث متبادل بينه وبين قرّاء
بحثه.
3– لا تتناول المحاضرة قضيّة تناقشها من مختلف جوانبها، بل تكتفي بتناول جانب من قضيّة، أو فكر محدّدة، وقد تطرح فكرة جديدة عن قضيّة من القضايا، من دون أن يزعم المحاضر أنّها فكرة مكتملة أو مطلقة الصحّة.
أمّا البحث فإنّه يتناول قضيّة معيّنة من جوانبها المختلفة، يُشبِعها مناقشة، ويطرح فيها أفكاراً عديدة، يحاول إثباتها ببراهين ودلائل، وفي سياق إثباتها، يسير بها بعيداً عن دائرة الشكّ، قريبا من دائرة اليقين، من دون أن يُغلق باب النقاش
فيها.
4 – تثير المحاضرة الأسئلة والتساؤلات، وتكبر أهمّيّتها كلما ازدادت الأسئلة التي تطرحها عدداً وخصوبة، وأقصد بخصوبة السؤال تعدّدَ الإجابات المحتملة عنه وتنوّعها، وفي الوقت ذاته يتجنّب المحاضر طرحَ الأجوبة. أمّا البحث فإنّه يسعى لتقديم إجابات الباحث عن الأسئلة التي يطرحها هو أو
غيره.
5 – ومن هنا، فإنّ غاية الأسئلة في المحاضرة تختلف عن غايتها في البحث، فالأسئلة التي تطرحها المحاضرة ترمي إلى تحريك أذهان المستمعين، لإثارة الحوار بشأن الفكرة أو الفكر المطروحة. بينما ترمي الأسئلة في البحث إلى التمهيد لطرح فكرة ما، أو تهيئة ذهن القارئ لتلقّي إجابة الباحث. لا يكون البحث جادّاً ومفيداً إذا خلا من الإجابات، أو من محاولة طرح إجابات، لكنّ الباحث المنفتح والعقلاني وواسع الأفق هو من يعطي إجاباته طابعاً احتماليّاً، أي يطرحها بوصفها اجتهادات واستنتاجات قابلة للنقض والإبطال أو التدقيق.
6 – من الأفضل أن تتّصف لغة المحاضرة بشدّة الوضوح، وأن تكون عباراتها قصيرة لا تخلو من الحرارة وجمال الإيقاع. وهذا ليس شرطاً لازماً في لغة البحث، لأن قارئ البحث يستطيع العودة إلى هذه العبارة أو تلك في أثناء قراءته، أو بعد زمن، أمّا مستمع المحاضرة فلا يستطيع العودة إلى ما فاته، كما يُستحسن أن تتجلّى في المحاضرة خفّة الظلّ لدى المحاضر وقدرته على الإلقاء المعبّر الجاذب، أما في البحث فإنّ خفّة الظلّ حلية قد يتحلّى بها هذا الباحث أو لا يتحلّى، من دون أن يؤثر ذلك في جدّيّة البحث وجماله وتماسكه.
إنّ معرفة المحاضر والباحث هذه الفروق تودّي إلى رفع مستوى ما يقدّمانه من محاضرات وبحوث.
كاتب وباحث من سوريا