لماذا يتحاشى المثقفون التقليديون طرح الأسئلة الإشكالية؟

آراء 2021/06/07
...

 ثامر عباس
ربما يتساءل البعض عن سبب إحجام أولئك الذين يطربون لسماع من يصفهم (بالمثقفين) عن طرح الأسئلة الإشكالية، وتجنبهم الخوض في غمارها، وتحاشي التورط في مغامراتها. لاسيما تلك الأسئلة التي من شأنها إماطة اللثام عن قباحات المجتمع، وتعرية تقرحاته المنتنة، وفضح عيوبه المخجلة!. والحقيقة أن البحث عن أجوبة لمثل هذه الأسئلة (الصعبة) والاستفسارات (المزعجة)، سيقودنا لولوج متاهات هي أشبه ما تكون بحقل ألغام مدجج بالمتفجرات، ليس من السهولة بمكان الخروج منها سالمين من دون جروح غائرة وإصابات بليغة!. 
ولعل ما يعيق هذا النمط من (المثقفين) ويقف حائلا {دون اقتحامهم لهذا المعترك الصعب وما ينطوي عليه من تدنيس للمحرمات وتبخيس للتمثلات، ليس فقط تحاشي الاتهام بالتجاسر على حقول البنى الذهنية العميقة، والأطر الاجتماعية المتقادمة، والأنساق الثقافية المتراكمة، والمنظومات الرمزية المترسبة وما تحمله من معانٍ ودلالات، بقدر ما قد تثير الشكوك حوله وتستدعي الريبة منه وتستجلب النقمة عليه. لذلك يفضّل أن يبقى متمسكا}- إما لتوخي السهولة، وإما لتحاشي الحرج - بطرح الأسئلة (السهلة) و(المريحة) التي لا تصدم القناعات الراسخة، ولا تعارض المسلمات الثابتة، ولا تستفز اليقينيات المستقرة. هذا في الوقت الذي يعتقد إن ما تحمله هذه الأخيرة من إجابات وتخريجات، باتت من الذيوع والشيوع، بحيث أضحت متداولة على ألسن العامة قبل الخاصة، ولم تعد بحاجة إلى المزيد من الخطابات الاستعراضية والتنظيرات الايديولوجية!. 
بمعنى إن ما يحاول هذا المثقف إيصاله من أفكار وتصورات إلى جمهور تحول في غالبيته إلى أدوات (منمذجة) و(مبرمجة)، حيال واقع اجتما - سياسي أقل ما يقال عنه انه أضحى بمثابة مرجل يغلي بالتناقضات والمفارقات، وبركان يوشك أن يلفظ حممه الملتهبة في كل الاتجاهات، ليست بذات قيمة ابيستمولوجية أو سوسيولوجية يمكن أن تخترق ممانعات عقل ذلك الجمهور (المنمط) و(المستقطب)، وتحيله من ثم إلى ما يشبه الحقل المحروث والمهيأ جيدا لاستنبات بذور نظريات جديدة ومنهجيات مستحدثة، قد تبدو مخالفة لمألوف قيمه ومغايرة لتواضعات أعرافه، بيد أنها قمينة بمنحه القدرة على أن يبصر أبعد من أرنبة أنفه، ويفكر أعمق من سطحية وعيه، ويستشف أوسع من ضيق أفقه. 
ولعلي لست بحاجة إلى إيضاح إن ما أعنيه بالأسئلة (الإشكالية) لا تدور حول أمور السياسة الساخنة، أو قضايا الاقتصاد المربكة، أو مسائل الاجتماع المكفهرة، بقدر ما أعني تلك التي لها علاقة خفية بالأسطورة حيث بواكير الوعي والمخيال، والدين حيث بدايات الاعتقاد والإيمان، والتاريخ حيث أصول التشكيل والتكوين، والثقافة حيث منابع الشخصية والهوية. 
ولذلك قلما اقترب أحد من المثقفين العراقيين من هذه الخطوط الحمر، وتجرؤوا على أن يطرقوا سبلها الوعرة ويبحثوا في مضانها الشائكة، باستثناء القلة القليلة منهم – لا يتعدون أصابع اليد – الذين تناولوا هذا الجانب أو ذاك بشكل مقتضب أو موارب. ولعل عالم الاجتماع العراقي الراحل (علي الوردي) كان أبرز تلك الثلة النموذجية من الباحثين والأكاديميين، الذين خاضوا غمار هذه المغامرة بشجاعة كلفتهم الكثير. 
ومن المفارقات المحيّرة إن تخصصات علمية من مثل (الفلسفة) و(التاريخ) و(الانثروبولوجيا) و(السوسيولوجيا) و(السيكولوجيا) التي مضت على تدريسها في الجامعات العراقية عقود خلت، لم تنجب حتى الآن – على حد علمنا – من المؤرخين والباحثين ممن يوازي أو يضارع المؤرخ الكبير (جواد علي) في موسوعته النادرة: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، حيث النبش في الأصول المطمورة، والبحث في المواريث المحظورة، والتنقيب في الخلفيات المستورة. 
وإذا كان العذر في ذلك يلقى على عاتق الأنظمة السياسية السابقة التي كانت تمنع تناول وتداول مثل تلك البحوث والدراسات، خشية الكشف عن المسكوت عنه وإماطة اللثام عن الممنوع القول فيه، فما العذر الآن يا ترى حيال تحاشي الخوض في غمار هذه المواضيع الحساسة، لاسيما ان الظروف الفوضوية السائدة في عراق ما بعد السقوط لا تبيح ذلك بل وتشجعه، بعد أن أضحى كل شيء متاحا ومباحا من المصادر والمراجع التي كانت نادرة وشحيحة، بل ممنوعة ومقموعة. 
وفي هذا السياق لا أخالني أجانب الصواب حين أزعم بان نظرية (الفوضى الخلاقة) ذات المنشأ الغربي/ الأميركي، وان كانت قد صممت بالأساس لتفكيك عرى المجتمع العراقي إلى مكوناته الأولية، إضافة إلى نسف أساساته التاريخية والحضارية وهتك يقينياته القيمية والرمزية، فان لها – من وجهة نظرنا المتواضعة – بعض الفوائد والايجابيات العرضية، التي إذا ما أحسن فهمها والتعاطي معها من منطلق علمي وموضوعي، نعتقد أنها قدمت خدمة للباحثين الجادين لم تكن تقصدها على 
الإطلاق. 
لاسيما من خلال مفاعيلها وأوالياتها وتداعياتها التي كشفت لنا بشكل فاضح؛ عن كم من مخلفات ماضينا الأسطوري ما زالت تؤطر وعينا، وكم من التباسات تاريخنا المؤمثل ما انفكت تحدد خياراتنا، وكم من إشكاليات ديننا المحرّف ما برحت تتحكم 
بعلاقاتنا. 
بحيث إن قصر الفترة الواقعة ما بين لحظة الصدمة (الغزو) وبين مظاهر التصدع الاجتماعي والتخلع القيمي، كانت كافية لإظهار عيوبنا المخفية، وتعرية سلبياتنا المضمرة، وفضح هشاشتنا المخبأة من جهة. 
وإعطائنا درسا "بليغا" وتلقيننا عبرة ليس من الميسور الحصول عليها، تتمثل بالعقليات والنفسيات والعلاقات والكيفيات التي ينبغي على الجميع تلقف خطواتها وتتبع مساراتها، إذا ما أريد للأوطان أن تبقى وتزدهر وللمجتمعات أن تحيا وتتطور من جهة أخرى.