منذ ظهورها والعملات الرقمية تثير الكثير من الجدل، بل وحتى الريبة والغموض..ولعل (لامركزيتها) هي السبب الأول الذي وجه لها نيران البنوك المركزية ومؤسسات النقد والبورصات في شتى دول العالم، إذ يحار المرء كيف يمكنه التعامل مع كتلة مالية غير ملموسة وليس لها وجود؟ ليتهمها البعض بأنها عملة للتهرب من الضرائب والتعاملات المريبة عبر الانترنت العميق.
والجدل حول العملات المشفرة إتسع مؤخراً بشكل متنامٍ ليعلن البعض عن نهاية هذا النوع من العملات بصيغتها الحالية الخارجة عن سلطة الجهات الرقابية، بيد ان بعض المحللين يقولون إنها يمكن أن تعود بصيغة أخرى حين يتم إصدارها من قبل المصارف المركزية في المستقبل وتتراجع إمكانية تهديدها للنظام المالي العالمي.
البنوك خنقتها
أجمع مشاركون في مؤتمر متخصص عقد في باريس مؤخراً، على أن حمى العملات الرقمية المشفرة انتهت بالفعل، بعد أن لاحت إمكانية خنقها من السلطات المالية الكبرى لمنع تهديدها للنظام المالي العالمي ولاسيما قد خسرت (بتكوين) وهي العملة المشفرة الرئيسة نحو 85 بالمئة من قيمتها منذ فورتها الكبيرة في اواخر العام 2017.
وذكر موقع وكالة بلومبيرغ الأميركية للأنباء الاقتصادية، ان تلك الخلاصة ظهرت في منتدى التكنولوجيا المالية “فينتيك” وشارك فيه أكثر 3 آلاف من أبرز رجال الأعمال والمستثمرين والمصرفيين والمحللين الماليين في العالم. ويعد المنتدى الذي عقد الأسبوع الماضي في قصر برونجيارت في باريس، المقر السابق للبورصة الفرنسية، أحد أكبر التجمعات السنوية لقطاع المال والأعمال في أوروبا.
مستقبل العملات
حظي الجدل بشأن مستقبل العملات الرقمية بالنصيب الأكبر من الجلسات النقاشية عن تكنولوجيا كتل البيانات التسلسلية المشفرة، بعد الارتفاع الهائل الذي سجلته تلك العملات في العام 2017 ثم الانهيار الكبير خلال الاثني عشر شهرا الماضية. وتحركت بتكوين التي تمثل وحدها أكثر من ثلثي قيمة العملات المشفرة في العالم عند نحو 3400 دولار بانخفاض يزيد على 85 بالمئة عن أعلى مستوياتها في بداية العام الماضي حين قاربت نحو 20 ألف دولار، وبلغت خسائر جميع العملات الأخرى أكثر من 90 بالمئة خلال تلك الفترة.
ورغم أن ذلك الانخفاض لا يزال يقل كثيرا عن المكاسب الهائلة التي حققتها في عام 2017، إلا أن معظم الخبراء يعتقدون أن الأسس التي تقوم عليها تزعزعت إلى حد بعيد وأنها من المستبعد أن تستعيد الثقة التي كانت تتمتع بها.
عملات جديدة
من جهتها بدأت المصارف المركزية لكبريات الاقتصادات العالمية باتخاذ خطوات فعلية لإصدار عملات رقمية مشفرة تخضع هذه المرة لرقابة السلطات المالية الحكومية مستغلة تراجع إقبال الأفراد على العملات الرقمية بشكل كبير، إضافة إلى تراجع عدد الشركات التجارية التي تقبل الدفع بتلك العملات.
ولم يكن أحد يتخيل إمكانية إيقاف زحف العملات الرقمية في بداية العام الماضي، رغم أنها كانت تنذر بتقويض نفوذ السلطات المالية ودور المصارف المركزية للدول وما يمكن أن يتبع ذلك من زعزعة للاستقرار العالمي.
وحينها كان جميع المحللين يرجحون مواصلة هذه العملات انتشارها مهما بلغت العقبات التي تعترض طريقها ومهما اتخذت السلطات من إجراءات ضدها.
أموال المستثمرين
أولى بوادر أزمة العملات الافتراضية جاءت من خلال تحذيرات الكثير من البنوك المركزية حول العالم، وبضمنها بنوك مركزية عربية، من التعامل بالعملات الافتراضية، لما لها من مخاطر على أموال المستثمرين فيها، لكن ذلك لم يكن كافيا لتفجير فقاعتها.
وتمثلت الضربة الحاسمة في شهر شباط الجاري، حين قررت مصارف أميركية وبريطانية منع شراء العملة الرقمية وبيعها باستخدام بطاقات الائتمان، وهو ما أظهر إمكانية خنقها وحصر تداولها في أقبية سرية محدودة إذا ما امتد الإجراء إلى المصارف في أنحاء العالم.
ومثل هذه الخطوة أن تبعد ملايين الأشخاص عن التعامل بالعملات الرقمية لعدم قدرتهم على شرائها وبيعها الأمر الذي يقلص مساحة تداولها بدرجة كبيرة جدا.
خلاصة وتقديرات
وأوضحت بلومبيرغ ان خلاصة آراء المشاركين في منتدى فينتيك تشير إلى أن تكنولوجيا العملات المشفرة لا تكون جاهزة للانتشار في صناعة المال التي تعتمد على التنظيم المحكم وسلطة الرقابة الحكومية. مضيفة أن المشاركين في المؤتمر ركزوا على العودة إلى الأساسيات المصرفية التقليدية.
وتشير التقديرات إلى أن القيمة السوقية الإجمالية للعملات الرقمية لم تشكل حتى في ذروة صعودها أي نسبة تذكر من حجم النظام المصرفي العالمي حين بلغت نحو 600 مليار دولار مقارنة بتداول عشرات تريليونات الدولارات يوميا عبر النظام المالي الرسمي.
وسرعان ماتضاءلت قيمة هذه العملات بعد الانحدار السريع لتصل إلى نحو 100 مليار دولار فقط في الوقت الحالي رغم وجود عشرات العملات في التداول ومئات أخرى في مراحل مختلفة من محاولات الإصدار.
أزمة ثقة
وتزعزعت الثقة بتلك العملات بدرجة كبيرة بسبب مخاوف من أن تمتد خطوة المصارف الأميركية والبريطانية إلى دول أخرى مثل مجموعة الاتحاد الأوروبي ودول معارضة أساسا لاستخدام العملات الرقمية مثل الصين ومعظم دول الشرق
الأوسط.
حكومات الدول الكبرى ستتلقف هذه الهدية المفاجئة بعد أن كانت خائفة من تقويض النظام المصرفي العالمي إذا ما تراجع النفوذ المالي للمصارف المركزية، الأمر الذي يهدد بانهيار الدول في المستقبل.
ومن المعلوم ان السلطة النقدية تعد أبرز أدوات الدول التي تمكنها من إدارة وتنظيم النشاطات الاقتصادية، ومن دونها يمكن أن تنهار سلطاتها وتعم الفوضى إذا ما تقلصت العوائد المالية للحكومات.
والعملات الرقمية الحالية لاتحمل رقما متسلسلا ولا تخضع لسيطرة الحكومات والبنوك المركزية كالعملات التقليدية، بل يتم التعامل بها فقط عبر شبكة الإنترنت، من دون وجود فيزيائي
لها.
وقد تلقفت المصارف المركزية مأزق العملات المشفرة وبدأ الكثير منها باتخاذ خطوات لإصدار عملات رقمية تخضع هذه المرة لرقابة السلطات المالية الحكومية بإستثمار تقنية (البلوك تشين) لتظهر ملامح عصر مالي جديد تتلاشي فيه العملات التقليدية.