الأنوثة في حضارة وادي الرافدين

آراء 2021/06/08
...

 أ.د. نجاح هادي كبة
ينبغي لتحليل الخطاب الكولونيالي، او النقد ما بعد الكولونيالي كما صار يعرف في العلوم الانسانية ان يكون ذا تأثير ملموس في مجال الاركيولوجيا.. « فقد، جرت معادلة الشرق بالجنسانية، بالانوثة، بالمادي والشهواني ووصف الشرق بالجسد الانثوي المتاح بانتظار ان يمتلكه الرجل الاوروبي المتمدن والمتمدن في ان معاً..  وامتد الخطاب الكولونيالي حتى الى فن التشكيل فقد حاول هذا الخطاب ان يعكس الشهوانية للشرق القديم كما عكست لوحة سقوط بابل للرسام الفرنسي جورج روتشغروس «Georges rochegross» 
 
هناك اشارات سيمائية واخرى مضمرة تشير الى ان الانوثة في حضارة وادي الرافدين استهلاكية هدفها الجنسانية المبتذلة، ولكن يفوق دور الانوثة دور الذكورة في نواحٍ عديدة، فلقد عكست النصوص التاريخية الادوار المهمة للانوثة في ميادين الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وعلى النحو الآتي:
1 - في الاسطورة: ان الاسطورة نسق من التواصل، انها رسالة، ويبدو من هنا ان الاسطورة لا يمكن ان تكون موضوعاً او مفهوماً او فكرة، انها نمط دلالي انها شكل فالاسطورة وظيفة تهيئ للبشر سبل التحرك والاستمرار انها محاولة لفهم الاناناكي «إله القدر الحتمي» انها الميثة «mythos» والميثة معتقد والمعتقد يستدعي طقوساً، والطقوس ليست عبثية انها لها معنى دلالياً، فهي ذات وظيفة اجتماعية. لقد أكدت دلالات الاسطورة الانوثة في حضارة وادي الرافدين انها معتقد او ميثة «mythos»  او كينونة. في قصة الخليقة البابلية كانت الالهة «تيامة» رمز الأنوثة عنصر الماء المالح، في حين كان الإله «ابسو» عنصر الماء العذب، اما «ممو» فكان شيئاً مرتبطاً بكتلة المياه السديمية الذي يلف كتلة العماء، وبعد قتال بين الالهة القديمة والجديدة احتدمت المعركة فنزلت «تيامة» بقوتها الهائلة في المعركة لكن «مردوخ» تمكن من قتل تيامة الهائجة الغاضبة، بعدها انهمك مردوخ في عملية شاملة لاتمام بناء الكون وتنظيمه، وبدأ بجسد تيامة الهائجة الغاضبة فشقه الى شطرين رفع احدهما ليخلق منه السماء...الخ. وتتخذ الانوثة بعد دورها في خلق الكون دور الالهة -  الام في حضارة وادي الرافدين، إذ عرفت بألقاب متعددة مثل ننخرماك، ماخ، انانا «عشتار» وننتو او ارورو كما ذكر ادوارد جيمس «Edward O. james» في اثنين من كتبه  ثم انه يورد بعد ذلك الدليل على ان ننخرساك هي الالهة الام، ويتمثل هذا الدليل في ضوء الالقاب والنعوت التي اطلقت عليها، او التي وصفت بها، المكانة المتميزة التي انفردت بها من بين سائر الالهات في المجمع الالهي واخيراً الدور الكبير الذي نسب اليها في عملية خلق الالهة والبشر وولادتهم فالالقاب والنعوت التي اطلقت على ننخرساك تفصح بشكل او اخر، عن الدور المهم لهذه الالهة في العقائد الدينية، وتقصد به دور الالهة - الام. وترد ننخرساك باسم ارورو في ملحمة كلكامش وحينما شكا اهالي اوروك من كلكامش لاضطهاده لهم استمع الاله انو الجليل لشكواهم وقالوا
 لها:
يا ارورو، انت التي خلقت هذا الرجل فاخلقي الان غريماً له يضارعه في قوة اللب والعزم وليكونا في صراع مستديم لتنال اوروك السلام والراحة حالما سمعت «ارورو» ذلك تصورت في لبها صورة لانو وغسلت «ارورو» يديها واخذت قبضة من طين ورمتها في البرية وفي البرية خلقت «انكيدو” الصنديد، نسل جوهر تنورتها لقد كانت الالهة ارورو فاعلة ونشطة مع الاله انو في عملية فض الظلم عن اهالي اوروك، فالانوثة شاركت الذكورة حين تصورت في لبها «قلبها» صورة للاله آنو فخلقت انكيدو الصنديد نسل جوهر تنورتها، وبذلك اضفت الانوثة على حياة اهالي اوروك الطمأنينة فكانت وراء تشكيل شخصية كلكامش «الذكورة» في طلب الخلود لاهالي اوروك، والالهة - الام الاخرى في حضارة وادي الرافدين هي انانا «عشتار» إلهة الخصب والحب والجمال في الالهة الجليلة التي مثلت ادوار الانوثة افضل تمثيل في حضارة وادي الرافدين ففي «قصيدة جميلة كتبت في عهد الملك البابلي» آمي - ديتانا «الذي حكم من سنة 1683 الى1647  ق. م. وهي في وصف الالهة «انانا- عشتار»:
الحمد للالهة لاكثر الالهات رهبة
والاجلال لسيدة الشعوب لاعظم الهة بين «الايكيكي» 
الحمد لعشتار لاكثر الالهات رهبة 
والاجلال لسيدة الشعوب ، لاعظم الهة بين «الايكيكي» 
لقد البست السرور والحب 
وحملت الحيوية والسحر والرغبة 
عشتار قد البست السرور والحب 
وحملت بالحيوية والسحر والرغبة 
حلوة الشفتين وفي فمها الحياة 
وعند ظهورها يكتمل السرور 
هي الجليلة وعلى رأسها وضعت الحجب 
قوامها جميل وعيناها مشرقتان  الالهة - معها المستشار- وفي يدها تمسك بمصير كل شيء وتصون «المرأة» سواء كانت أمة أم حرة أم والدة.  ان علامات سيمائية تشير الى شخصية المرأة ودور الأنوثة في حضارة وادي الرافدين في ضوء هذه التراكيب الشعرية، فشخصية المرأة تمثلها شخصية «انانا- عشتار» فهي السيدة الجليلة وهي في الوقت نفسه قوية الشخصية «اكثر الالهات رهبة» وهي تتصف في الوقت نفسه بالقوام الجميل والحديث الذي يسر السامعين «حلوة الشفتين وفي فمها الحياة» ومن سمات قوة شخصيتها الانثوية ان لها مستشار لانها الالهة الام، لقد عكست عشتار ان الصفات الذكورية تتمثل في جوانب من الشخصية الانثوية، فكأنما يحاول التفكير الرافديني مساواة الانوثة بالذكورة، ان عشتار هي الالهة الرجولية للمعارك. ففي النقوش البارزة تمثل اذ ذاك، بين اشكال اخرى واقفة وعلى ظهرها جعبتان وعلى جنبها سيف، وهي منتصبة فوق اسد تقبض على زمامه بيدها اليسرى انها ايضاً الهة الحب في اصفى انواعه فهي تعطي الملوك الصولجان والعرش والشارة الملوكية انها تتبنى وتحمي
 السلالات.