نعمة العبادي
قطع بناء الدولة أشواطاً كبيرة متجاوزاً الشكل البدائي للتأسيسات الأولى، ومثل الخط البياني لتطور حركة الهياكل والمؤسسات المؤشر الأهم الذي يتم من خلاله قياس المدى الذي بلغته «دولة ما» في تطور بنيتها، ونضوج مسارها التكاملي. تمثل الهياكل والمؤسسات الوعاء الذي يستوعب قدرات الدولة البشرية والمادية، والأداة التي تترجم فلسفة الدولة وتوجهاتها ومتطلبات شعبها، لذا فهي «استجابة ومحفز» في آن واحد.
يعكس انتظام المؤسسات، والفصل الدقيق في مسؤولياتها، والكيفية التي تدار بها، ورعاية التخصص في مواردها البشرية، وضوح فلسفة الدولة، وعدالة وحكمة نظام الحكم فيها، ومؤشر لرفاهية الحياة لشعبها، والعكس صحيح.
كانت الرؤى القديمة المتداولة عن شكل المؤسسات والهياكل منبثقة من فلسفة الامبراطوريات القديمة، والتي تميل بشكل كبير الى الضخامة والسعة، وتعد شكل الهياكل الحكومية أجزاءً تتركب منها هيبة الدولة ومظهرها المؤثر، لذا كان الاهتمام مبالغاً به تجاه الشكل على حساب المضمون، ومع تطور أدبيات الادارة والحكم، صارت «الوظيفة والدور» هي المحدد الأساس الذي تقوم عليه الهياكل والمؤسسات، وبدلاً من الاتجاه الى الضخامة والسعة، صار الاتجاه الى الكفاءة والدقة، واصبح الشعار العام لإدارة الحكم الرشيد «انجازات أكبر وأتم بهياكل ومؤسسات أصغر وكلف أقل»، ومع تطور التكنولوجيا الذي رفع عن كاهل البشر معظم الاعباء، وضاعف من الانتاج بما لا حدود لتصوره، توجهت الدول الناجحة بشكل كبير تجاه اختصار الهياكل، وتبسيط المؤسسات، والعمل بأقل الكلف مع رعاية الابداع والتميز، ووصلت الامور حتى إلى الجيوش، حيث صار التوجه إلى الجيوش الذكية النوعية.
يمثل أنموذج الدولة الخادمة وصاحبة الحق الحصري في كل مجالات الحياة الشكل الأساس الذي طبع الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921، فهي التي تقوم بكل شيء، وتشرف على كل شيء، ومهما قيل عن دور للقطاع الخاص في مراحل ما من عمر الدولة، إلا ان الدولة الريعية هي الشكل الغالب والطاغي خصوصاً بعد ان أصبح النفط المورد الوحيد لاقتصادها.
ومع ان نظرة النظام السابق تقوم على فلسفة تعظيم السلطة عبر تعظيم وتضخيم شكل المؤسسات والهياكل، الأمر الذي أوجد عشرات المؤسسات، إلا أن صورتها النهائية حملت حدوداً واضحة من فصل المسؤوليات والصلاحيات، كما ان الاهتمام بالتخصص في مواردها البشرية الفنية على وجه الخصوص ساعدها في الاستجابة لمواجهة تحديات كبيرة واجهتها الدولة بسبب النزوات الرعناء للحاكمين، الأمر الذي جعلها متوافقة «نسبياً» مع حاجة ومتطلبات الدولة.
قام نظام ما بعد نيسان «2003» على فلسفة «شراكة المكونات»، والذي أفرز بالتبع «المحاصصة»، وبما ان التدافع على الحصص والامتيازات هو الطبيعة الغالبة على الانظمة من هذا النوع، فقد كان الحل الأمثل والاسهل لفك الاختناق في كل مرة يتمثل بالذهاب لاستحداث المزيد من الهياكل والمؤسسات والمناصب، وقد اشتهرت عبارة للتندر «لدينا دگمة ونريد أن نفصل لها قاط»، وما أكثر «القوط التي خيطت من أجل دگم نافذة».
لم يكن تحدي المحاصصة العامل الوحيد الذي ألقى بظلاله الكثيفة على بنية الدولة، بل تضايفت معه عوامل أخرى منها «تشويش فلسفة الدولة، وضعف الثقة بين مؤسسات السلطة، وتغالب المكونات»، والذي انتج بدوره تداخلاً وتشابكاً عجيباً في المؤسسات والموارد البشرية، فمن عجائب الزمان ان تجد «ضابط ركن» يعمل في القطاع الشرطوي، «ضابط شرطة» يقود فوجا أو لواء ويعمل في المجال العسكري، وهكذا تمدد الخلط في كل الاتجاهات، فملف مثل «مكافحة الارهاب» تتشاركه أكثر من عشر جهات، واستحدث لأجله عشرات التشكيلات والهياكل المتشابهة والمتداخلة في صلاحياتها، ومع شيوع روح التغالب يصبح جهد المؤسسات بمثابة «الهدم الذاتي» أكثر مما هو عمل تكاملي.
إن مسيرة الاصلاح الحقيقي تبدأ من إعادة النظر العميقة والعلمية الوطنية المخلصة بكل هياكل الدولة ومؤسساتها لإعادة النظر في كل شيء فيها، فهناك المتعدد الذي يحتاج الى الدمج والاختزال والاختصار، وهناك ما يحتاج الى اعادة توجيه وتصحيح مسار وتعديل مهمة، وهناك نقص في مجالات اخرى يحتاج الى مؤسسات تلبي الحاجة وتسد العوز، وفوق كل ذلك نحتاج الى اعادة نظر في معظم الموارد البشرية وكيفية تقسيمها بشكل يتناغم ويتناسب مع الحاجات الحقيقية للدولة، وهي مهمة عظيمة تحتاج إلى ارادة بحجم عظمة العراق.