صلاح حسن الموسوي
بعد انتصار ثورة العاشر من يناير في مصر وانهيار نظام حسني مبارك، تداول المصريون نكتة، حول صعود حسني مبارك الى السماء بعد الموت، ولقائه الرئيسين الراحلين قبله، جمال عبد الناصر وانور السادات، حيث بادراه بالسؤال سم ام منصة؟، على اعتبار الأول توفى بالسم بحسب الأقاويل، والثاني قتل على المنصة في احد احتفالات ذكرى حرب تشرين، وقد اجابهم مبارك: لا هذا ولا ذاك، بل فيسبوك!
في اشارة الى دور وسائل التواصل الأجتماعي وادوات السوشيال ميديا، في اشعال الثورة المصرية وديمومتها في تحويل التجمعات البشرية الافتراضية في هذه الآليات الى تجمعات حقيقية معارضة ملأت المدن المصرية، وبالخصوص ميدان التحرير وسط القاهرة، وكان لهذه الوسائل الدور الفاعل في احتجاجات ماسمي بـ (الربيع العربي) في البلدان العربية، خصوصا مع انطلاقتها في تونس، والدور الذي لعبته الفضائيات التلفزيونية وموقع اليوتيوب في تعميم صور محمد البوعزيزي وهو يحرق نفسه في احدى المدن التونسية، وقد شاعت حينها تسميات ثورات الأنترنت او ثورات الفيسبوك.
اقترن تطور وعنفوان الكثير من الثورات والانتفاضات في التاريخ الحديث بتطور العلم وانتشار وسائل التكنولوجيا، ففي التاريخ البعيد نسبيا، وكان لاختراع المطبعة في القرن الخامس العاشر من قبل الألماني يوهان غوتنبرغ دور محوري في انتصار حركة الاصلاح الديني التي قادها البروتستاني مارتن لوثر ضد الكنيسة الكاثولوكية، حيث وصف لوثر المطبعة بهبة الله الأسمى لما لها من دور في انتشار كتبه الداعية الى الاصلاح الديني، مقارنة بالطريقة البدائية القائمة على النسخ، وتحولت كتب لوثر حينها الى الكتب الأكثر مبيعا في العالم، وايضا أسهمت المطبعة الجديدة في حملة التخلي عن قراءة الانجيل باللغة اللاتينية (لغة الكنيسة الكاثولوكية) واستبدال قراءته وتعلمه باللغة المحلية الألمانية، لتمثل اول واوسع حملة لمحو الأمية الأبجدية، والتي أسهمت بدورها في حدوث القفزات الحضارية السريعة في النهضة
الأوربية.
من جانب اخر مثلت مساهمات العالم الرياضي (ديكارت) مرحلة جديدة في تاريخ الفلسفة، ارتهنت بعدها في الكثير من المفاصل المعرفية لما يقوله او يكتشفه العلم التجريبي، خصوصا بعد ظهور العالم الشهير نيوتن وقوانينه في الجذب العام وعلم الحركة، واصبحت فروع الفلسفة في الاجتماع ودراسة النفس البشرية واللغة، تحاكي العلوم التجريبة وتطمح للوصول الى دقة الأرقام الرياضية في بحثها وتقصيها عن اهداف دراساتها، وفي القرن العشرين ومع دخول العالم في ثورته الرابعة (التكنولوجية)، اقترنت الثورات وحملات التعبئة الايديولوجية الجماهيرية بتطور التكنولوجيا.
فقد طغت الظاهرة الناصرية القومية في العالم العربي ابان خمسينيات وستينات القرن الماضي مع انتشار استخدام الراديو (الترانسوستر)، الذي كان يبث خطابات جمال عبد الناصر عبر الأثير وتتلقاها الجماهير في جميع ارجاء الوطن
العربي.
وفي عام 1968 تفجرت احتجاجات الطلبة في فرنسا وامتدت الى انحاء اوروبا في حركة مثلت احتجاج جماهير ي شبابي ضد النظام الرأسمالي وامتدت الى الولايات المتحدة لتتصاعد الاحتجاجات ضد الحرب الأميركية في فيتنام، وكان لاختراع التلفزيون واقتنائه في الكثير من البيوت وسيلة في التواصل الشعبي اليومي مع الاحتجاجات المنقولة على الشاشات، كذلك شهدت احتجاجات 1968 بروز ظاهرة استخدام الكاميرا الفوتوغرافية على نطاق واسع، وتوظيفها في توثيق الحوادث عبر صور الكاميرات، وفي الثورة الايرانية عام 1979 عرفت (ثورة الكاسيت)، حيث كانت معظم خطابات وتوجيهات قائد الثورة اية الله الخميني اللاجىء في فرنسا، كانت تستنسخ بواسطة كاسيت الآلة المسجلة، وتهّرب الى داخل ايران لكي توزع في مختلف المناطق الأيرانية.
وخروج التظاهرات بعدها والتي عرفت بالتظاهرات المليونية.
تلعب التكنولوجيا دورا حيويا في ما يسميه احد المفكرين العرب (توحيد الزمن) بالنسبة للجمهور وجعله اكثر تسييسا، حيث تستطيع صحيفة مهمة او قناة تلفزيونية مؤثرة أن توحد خطابا يشد اكبر نسبة من الناس، بغض النظر واختلاف المكان وبعد المسافة، وقد اشركت الفضائيات الجمهور العربي في الحدث التونسي عبر زمن موحد، وتحول هذا الجمهور في ما بعد من موقف المشاهد الى فاعل ثوري حاسم في جميع الدول العربية تقريبا. ومسألة التسييس هي التي تحول الحشود من صفة الجمهور الساكن الى صفة الجماهير الفاعلة، وعلى الرغم من اهميتها القصوى احيانا في الاحتجاجات والثورات، لا تعد ادوات التكنولوجيا صانعة للحدث، بل ارادة الشعب التي اعيد اكتشافها بعد ان غادر الناس حالة الخوف، وانسلوا من بيوتهم الى الشوارع وساحات الاعتصام، ليعلنوا انهم الشعب، وانهم يريدون اسقاط النظام.
تبدو الحرب الحالة الأكثر قربا للثورة بحسب حنه ارندت، ولكن الفارق ان الحرب عبارة عن عنف محض، في حين لا تميل الثورات في الكثير من احداثها الى العنف، وقد شهدت الحروب اقسى القدرات على التدمير في القرون الأخيرة، بسبب تطور التقنيات وتوظيفها في صناعة انواع الأسلحة، واستزلام القنوات الفضائية والصحف الكبرى لصالح شركات صناعة الأسلحة في الغرب، وقد اجاد الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو في وصف حرب العام 1991على العراق، حيث اصيب الرأي العام بالصدمة نتيجة التقينات المتطورة جدا في الأسلحة واسلوب النقل الفضائي للقنوات الأميركية الذي كان حديث الظهور، حيث تحول النقل المباشر للقصف على العراق بالصواريخ والقذائف والطائرات الى مايشبه العاب الكومبيوتر.
وقد احيط الجمهور بحالة مسيطرة من الدهشة والفضول، لما استجد من ادوات الحرب والاعلام، على حساب قوة الرفض الشعبي الغربي للحرب والتي ظهرت في الساحات العامة قبل نشوبها، اذ تحولت مجازر ملجأ العامرية وغيرها من الفظائع والتدمير الشامل للجسور ومصادر المياه والكهرباء في العراق، الى ما يشبه التفاصيل في لعبة (اتاري) تثير في بعض الأحيان التسلية
والأعجاب.