أقرب إلى الثقافة.. أبعد عن السياسة

آراء 2021/06/17
...

  ثامر عباس 
يعتقد الكثيرون ان مشكلات العراق المستعصية ومآسي شعبه المتوالية، ناجمة ليس بسبب شح في الوعي وقلة في الثقافة، وإنما نتيجة الابتعاد عن الشؤون المتعلقة بالسياسة، والنأي عن القضايا المرتبطة بالسلطة. أي بمعنى إن استمرار تلك المشكلات وتواتر تلك المآسي، ما هي إلا حاصل إفراطنا في التعاطي مع الثقافة وتفريطنا بالانخراط في السياسة!. 
ولهذا نلاحظ إن حصة الإنسان العراقي من الزاد الثقافي – الفكري آخذة بالتآكل والتناقص {كما ونوعا}، يأتي ذلك على حساب الزيادة المفرطة في معدلات استهلاكه للزاد السياسي المطعّم بالايديولوجيا والمنكّهة 
بالديموغوجيا. 
والحقيقة إن شيوع هذا الوهم ناشئ من الاعتقاد بأن جلّ ما تعانيه مجتمعات العالم الثالث، ليس سوى انعكاس لابتلائها بأنظمة سياسية أدمنت القمع السياسي والتجويع الاقتصادي والترويع النفسي، بحيث ترسّخ لدى شعوب تلك البلدان تصور إن (كعب أخيل) إفلاتها من هذه الخوانق المدمرة، يكمن في تغيير تلك الأنظمة واستبدالها سواء بانتهاج طرق (الثورات) الاجتماعية أو اعتماد سبل (الانقلابات) العسكرية، وبالتالي إيجاد سياقات سياسية مغايرة تحتكم إلى قيم الديمقراطية وممارساتها القائمة على المشاركة في صنع القرارات السياسية، والعدالة في توزيع الثروات الاقتصادية، والحرية في الولاءات 
الايديولوجية. 
وفي إطار هذه الرؤية الراديكالية للواقع السوسيو- سياسي، فقد اعتبر البعد الثقافي/ الفكري بمثابة (ترف نظري) لا تسمح ظروف تلك المجتمعات وأوضاعها المزرية في تحمل تكاليفه وضمان نتائجه، لاسيما أنها تعلم علم اليقين أن المردود الذي يتوقع حصاده من هذا الحقل لا يأتي في العادة إلاّ متأخرا وبشق الأنفس، هذا إن كان هناك مردود 
بالأصل!. 
خصوصا أنها أمضت معظم تاريخها الاجتماعي والسياسي تعيش على وقع نظريات وخطابات (حرق المراحل) التاريخية و(اختزال الأطوار) الحضارية، إن كان في مضمار السياسة، أو في ميدان الاقتصاد، أو في حقل الثقافة. 
وهكذا لم يعد لعناصر (الفكر) ومقومات (الثقافة)، في هذا النمط من المجتمعات المتصدعة والمتشظية، دور ايجابي يمكن أن تعلبه على صعيد تشذيب بنية الوعي، أو وظيفة حضارية يمكن أن تؤديها على صعيد تهذيب نسق السلوكيات، باستثناء ما يخدم أهداف السلطة الحاكمة ويدعم مصالحها في مجال مضاعفة إجراءات (التنميط) للذهنيات و(التجييش) للنفسيات، لاسيما في الظروف السياسية الطارئة والأوضاع الاجتماعية المضطربة، التي غالبا ما تتعرض لها تلك السلطات، على خلفية ما ترتكبه من أخطاء، وما تمارسه من انحرافات، وما تشيعه من قباحات. 
والأنكى من ذلك، انه بقدر ما تلجأ السلطة الحاكمة إلى العوامل الفكرية والثقافية لاستثمارها في مجال (الاحتواء) الايديولوجي و(التدجين) السيكولوجي للمجتمع، بقدر ما ينفر (المثقفون) الحقيقيون من التعاطي مع تلك العوامل والابتعاد عنها، عادين إياها جزءا من المنظومة الرمزية لتلك السلطة القائمة على تزوير الحقائق وتحوير والوقائع، وبالتالي فإنهم يتحاشون الوقوع في شباكها ويسعون للإفلات من مصائدها. 
من هنا يتولد الانطباع لدى الجمهور المحكوم بالطغيان السياسي، والحرمان الاقتصادي، والامتهان الاجتماعي، والارتهان الايديولوجي؛ بان الخلاص من هذه الكوابيس المتراكمة والنجاة من تلك الكوارث المتفاقمة، لن تبدو خيارات متاحة عبر التوجّه صوب الفكر أو باللجوء إلى الثقافة، وإنما ستغدو غايات أقرب إلى التحقق عبر التوسل بأهداب السياسة والانخراط في ألاعيب 
السلطة. 
وعلى هذا الأساس، يبدو من الضرورة بمكان التأكيد إن مراد العراقيين في بناء مجتمع ناهض من الكبوات والانكسارات، ومتحرر من الاكراهات والمنغصات، لن يكون على جدول الأعمال المتاحة والمشاريع الممكنة، ما لم يكونوا أقرب إلى رحاب الثقافة رغم مصاعبها ومتاعبها من جهة، وأبعد عن عرين السياسة وإغراءاتها واغواءاتها من جهة أخرى. ولعل مصداق ذلك يأتي من كثرة تجاربنا المريرة في أتون السياسة و ما يتمخض عنها من صراعات وانقسامات، في حين لن تسنح لنا – طيلة عقود عجاف – فرصة اختبار رهانات الثقافة وما قد يترتب عليها من إمكانيات مشجعة وتوقعات مبشرة.