كلمة في المعاناة

آراء 2021/06/21
...

 رعد أطياف
 
من جملة الأشياء البديهية التي لا يختلف عليها اثنان، هي أن المعاناة ليس حالاً مُرحَبَاً به، أي لا يندرج ضمن الأشياء المرغوبة. على سبيل المثال: لا أحد يمكنه تقبّل المعاناة النفسية، ولا تقبّل الألم الجسدي. فمن أجل الجسد سنسرع للطبيب فور حدوث الألم، خصوصاً إذا كان مستفحلاً ويهدد وجودنا. إنّها طبيعة بشرية تبحث عن السعادة وتتجنّب الألم، فلا أحد منّا يحب المنغّصات مهما كان شكلها ولونها وكميتها على أي حال. كل هذا يجري باتقان بعلاقتنا مع الجسد من حيث العلاج والتنظيف والترويض للحفاظ عليه أطول فترة ممكنة. لكن يتوقف هذا الشعور الوقائي عندما يتعلق الأمر بأحوالنا النفسية؛ فالحسد، والغيرة، والغضب، والتكبّر، وسائر المشاعر السامّة التي تتراكم في الذهن على شكل انطباعات تتركز في الذاكرة لتحدد نمط سلوكنا لا حقاً، وتنعكس على مجمل حياتنا اليومية لنبدو في غاية الكآبة والتعقيد والحزن. في مثل هذه الحالات يتجه الذهن صوب اللا أبالية والتجاهل في الوقت الذي ركز فيه على آلام الجسد حصراً، تاركاً هذه الأمراض في ذمة المجهول. ويزيد الأمر سوءاً من خلال مضاعفة الألم بطريقة سادية تدعو للحيرة؛ فبينما يتجه البشر لتجنب المنغصات، نرى ظواهر غريبة تضاعف من ظهورها، بمعنى أن الكثير من البشر يتصرفون بالضد من نزوعهم الغريزي لطلب السعادة. المشكلة ليست في التسمية، أن نسمي هذه الحالة غضباً، أو كراهية، أو غيرها، وإنما تكمن المشكلة في الحالة التي جعلت هذا الفرد أو ذاك يتنازل عن غريزة طلب السعادة وتجنب الألم، أي لماذا يتصرف بهذه الطريقة لإيلام الذات؟. ربما يتمحور جزء من جوهر المشكلة في تمثّل الأحوال النفسية المؤلمة على أنها جزء من هويتنا، وهذه الأخيرة تمثّل وجودنا، ولا يمكن لأحد منّا أن يفرّط ولو بجزء من وجوده: الغضب هويتي، والتكبر هويتي، والحسد هويتي.. إلخ. وهويتي تساوي وجودي، وحينما أضاعف هذه المعاناة أضمن بها وجودي كي لا يٌستَلَب!. تمتلئ المستشفيات بالأطباء والصيدليات بالدواء ويهرع الناس للعناية بأجسادهم لكن بذات الوقت يتجهون إلى مزيد من جلد الذات ومضاعفة معاناتهم، علماً أنهم يشعرون بألم مبرّح نتيجة تلك المعاناة النفسية. ما يعوزنا هو التحلي بقوة الاعتراف وهذه الأخيرة تمنح الذهن انطباعاً ايجابياً ومفتاحاً للتغيير. ما يعوزنا هو تلك العبارة «أنا أعاني حقاً!، ومعاناتي ليست بالضرورة جزء من طبيعتي»، ذلك أن الألم شيء، والمعاناة شيء آخر؛ الأول إجباري، والثاني اختياري. حينما تقع حَجَرَة على رأسي فسوف أتألم بالضرورة، لكن حينما يصرخ فيّ مسؤولي في العمل، فلا ضرورة هناك لمقابلة هذه الحالة بمزيد من الأسى والحزن ورثاء الذات، أي أقابله بمعاناة نفسية، غير أن أحكامي وإسقاطاتي هي من تلوّث هذا الحدث وتضعه في غير موضعه. عبور الأسى أفضل من الغرق في محيط المعاناة إذ «لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير».