تقوم هذه الرؤية لتنظيم الخطاب الديني في الإعلام العراقي والعربي، على اقتراح مجموعة أفكار، هي:
1 - لا تكمن أزمة الخطاب الديني في الإعلام العراقي والعربي بطبيعة البرامج والمقدّمين والضيوف، بل ولا في المادّة التي تُقدّم، إنما الأزمة كامنة أساساً وقبل كلّ شيء في تكوين العقل الديني نفسه الذي يُنتج هذه المادّة، وفي الجهاز العقلي الذي يشتغل هذا الإعلام من خلاله.
وحيث تكون الأزمة في العقل المكوّن وفي الجهاز العقلي المُنتِج، فهي إذن أزمة لا تُحلّ بالمقرّرات وحدها، وبالضوابط التنظيمية مهما بلغت تلك المقرّرات من صرامة، والضوابط من دقة.
الحلّ في خطوته الأولى وفي قاعدته العميقة، هو حلٌ معرفي، ثمّ تجيء المقرّرات والضوابط لتشيّد عليه.
2 - أولى الخطوات المعرفية التي تصلح ركناً في إعادة بناء الخطاب الديني، هو التمييز الصريح والقطعي، بين النصوص الدينية الأصيلة (القرآن والسنّة) وبين فهم النصوص.
فما له القداسة والتجلّة والاعتبار هي النصوص التأسيسية للمنظومة الدينية، وما دون ذلك فهو فهم بشري واجتهاد إنساني ضمن المنهجيات المتداولة في نطاق العلم الديني، عرضة للنقاش والقبول والدحض، لا يحظى وصاحبه بأي قداسة.
وهذا مغزى ما ذهب إليه أحد المفكرين المعاصرين من تمييز المعرفة الدينية إلى درجتين:
الأولى: المعرفة الدينية من النمط الأول، وهي معرفة تتسم بالقداسة والانسجام والثبات وعدم التعارض والتضاد والتغيّر، لأنها وحيٌ من السماء (معرفة المعصوم).
الثانية: المعرفة الدينية من النمط الثاني، وهي اشتغال إنساني على معرفة الدرجة الأولى، واجتهاد بشري منهجي يقوم على قواعد معرفية محدّدة، لا قداسة لها، بل تحتمل ما يحتمله أي اجتهاد من خطأ وصواب، وتضادّ وتعارض، ونقص وتغيّر وكمال، هكذا إلى بقية عوارض المعرفة الإنسانية في نسقها الاجتهادي، وتأثرها بالمكان والزمان والبيئة والعصر وما إلى ذلك (معرفة ما بعد المعصوم).
3 - الركن الآخر الذي تتطلبه عملية إعادة بناء الخطاب الديني، هو التمييز القطعي بين دوائر المعرفة ومرجعياتها الثلاث: العقل، الوحي، التجربة.
أهمية هذه الخطوة لا تكمن بإعادة الاعتبار في حياتنا إلى العقل المعطّل والتجربة الغائبة وحسب، إنما الأهمّ من ذلك هو تفكيك قضايانا في الحياة وإعادة تصنيفها في نطاق هذه
الدوائر. وحينها سنكتشف أن الكثير مما كنا ننظر إليه قضايا دينية نترقّب فيه موقف الوحي والسماء، هو في حقيقته من وظائف الإنسان نفسه، يتوفر على علاجه وإيجاد الحلول له بعقله وتجربته.
ومن يصرّ على حصر كلّ شيء بالوحي وحده، فإنه يطعن بنظام التكوين وحكمة الخالق، لإلغائه معقولية العقل، وتعطيله دور التجربة.
4 - تفكيك الأسس الفكرية للعقل الديني المتطرّف، بإعادة الاعتبار إلى الاجتهاد والتأويل، ولستُ أعرف أداةً معرفية لتفكيك العقل الديني المتطرّف معرفياً، أقوى من آلة الاجتهاد والتأويل.
5 - ما يترتب على النقاط السالفة، بلوغ الخطاب الديني إلى ركن جديد من أركانه هو الإقرار بالتعدّدية على أساس معرفي (كلامي) وفقهي (اجتهادي)، ما يؤدّي إلى تعايش الفِرق والمذاهب، بعيداً عن منهاج استملاك الحقيقة، واحتكار الحقّ، بمنطق: «إن ما لديّ هو الحقّ المطلق، والآخر هو الباطل المطلق».
6 - من الأركان الأخرى التي ينبغي أن يستند إليها الخطاب الديني في إعادة بنائه، هو الإعلان الصريح والواضح للضرورات الدينية والمذهبية، بحيث إذا ما تخطاها الإنسان يكون قد خرج من الدين أو المذهب.
ففي نطاق بعض إعلامنا الديني في العراق والعالم العربي، أصبح يُرمى بالكفر مثلاً من لا يرتدي الثوب القصير أو لا ترتدي النقاب، أو يخرج من ربقة المذهب من لا يمارس الطقس الفلاني أو يعترض على هذه الممارسة الشعائرية، وهكذا.
المطلوب بحث معرفي كلامي فقهي مكثف وواضح في تحديد هذه الضرورات، لنتبيّن النواة الصلبة للإسلام والتشيّع والتسنّن، لكي لا يوسّع هذه الدائرة الجهلة والأدعياء، فيكثر تبعاً لذلك التكفير والتبديع والتفسيق!
هذه مجموعة مرتكزات معرفية مطلوبة لتأسيس بنية رصينة للخطاب الديني في الإعلام، يمكن أن يتلوها رؤية تطبيقية تفصيلية، إذا كانت ثمّ حاجة أو طلب لذلك.
يمكن تلخيص الأركان التي تقوم عليها عملية إعادة بناء الأسس المعرفية للخطاب الديني في الإعلام العراقي والعربي، إلى ما يلي:
1 - تكمن الأزمة أساساً في تكوين العقل الديني نفسه، الدالّ على الفهم وليس على العقل كآلة.
2 - التمييز الصريح الواضح بين النصوص الدينية التأسيسية، وبين فهم النصوص أو بين المعرفة الدينية من الدرجة الأولى والمعرفة الدينية من الدرجة الثانية. فما له القداسة والعصمة والثبات هو الأول، دون الثاني الذي لا يزيد على أنه اجتهاد بشري يحتمل الخطأ والصواب والنقص والتغيير.
3 - التمييز القطعي بين دوائر المعرفة الثلاث: العقل، الوحي، التجربة، لتحرير الدين من قضايا كثيرة، هي من اختصاص العقل والتجربة.
4 - إعادة الاعتبار إلى الاجتهاد والتأويل في الفهم الديني.
5 - التأسيس على ضوء ما مرّ للتعدّدية المعرفية (الكلامية) والفقهية (الاجتهادية) لتعيش الأمة شرعية الحدّ الأدنى لجميع مذاهبها وفرقها، في إطار الاجتهاد والدليل.
6 - البلورة الصريحة والقطعية للضرورات الدينية والمذهبية والفقهية، للحؤول دون توسيع دائرة التكفير والتبديع والتفسيق.