سعيد الغانمي
منذ مطلع القرن الرابع الهجريِّ، كان المجتمع البغداديُّ قد وصل إلى ذروة التَّمزُّق، وأصبح للفساد مؤسَّسات خاصَّة، ليس فقط في ما يتعلَّق بالعيّارين والمكدِّين، الذين تفحَّصنا طبيعة مؤسَّساتهم وأدبهم، بل إنَّ الفساد وصل إلى ذروته أيضاً حين صارت العصاباتُ البدويَّة واللُّصوصيَّة تحظى بدرجةٍ كبيرةٍ من المَأْسَسَةِ الاجتماعيَّة تحت مرأى الدَّولة ومسمعها، بل بتحريضٍ منها. وأوضح مثال على مأسسة الفساد هو قصَّة اللُّصِّ البغداديِّ ابن حمدي الذي اشتهر في ثلاثينيّات القرن الرابع الهجري.
كان ابن حمدي قاطعَ طريقٍ عاديّاً، غير أنَّه انفرد عن اللُّصوص الآخرين باتِّصافه بأخلاق الفتوَّة إلى حدٍّ ما، فكان لا يعترض طريق الفقراء أو أصحاب البضائع اليسيرة، بل يكتفي بسرقة مَن تزيد أمواله على مائة ألف درهم. وربَّما تسامح مع المسروق منه، فأعاد إليه نصف ماله، واكتفى بسرقة نصفه. يروي أحد التُّجّار أنَّه كان يحمل بضاعته وأمتعته التِّجاريَّة في كارٍ، أو مركبٍ نهريٍّ كبير للنَّقل، فقطع الطَّريق عليهم "لصٌّ كان في الطَّريق، يُقال له ابن حمدي، يقطعُ قريباً من بغدادَ، فأفقَرَني، وكانَ معظمُ ما أملكُهُ معي، فسهلَ عليَّ الموت، وطرحتُ نفسي له. وكنتُ أسمَعُ ببغدادَ أَنَّ ابن حمدي هذا فيه فتوَّةٌ وظرفٌ، وأنَّه إذا قطعَ لم يعرضْ لأربابِ البضائع اليسيرة التي تكون دونَ الألف درهمٍ، وإذا أخذَ ممّن حالُهُ ضعيفةٌ شيئاً قاسمَهُ عليه، وتركَ شطرَ مالِهِ في يديه، وأنَّه لا يفتِّش امرأةً ولا يسلبُها، وحكايات كثيرة مثل ذلك".
يقول هذا التاجر إنَّه اشتكى إلى ابن حمدي حالتَهُ مؤمِّلاً أن يرقَّ له. وفعلاً فقد اعتذر ابن حمدي بما تفعله السُّلطة في بغداد قائلاً: "يا هذا، اللهُ بينَنا وبينَ هذا السُّلطان الذي أَحْوَجَنا إلى هذا، فإنَّه قد أسقطَ أرزاقَنا، وأحوَجَنا إلى هذا الفعل، ولسنا فيما نفعلُهُ نرتكبُ أمراً أعظمَ ممّا يرتكبُهُ السُّلطان. وأنتَ تعلمُ أَنَّ ابن شيرزاد ببغدادَ يُصادرُ الناسَ وَيُفْقِرُهم، حتّى أنَّه يأخذُ الموسرَ المكثرَ فلا يخرجُ من حبسِهِ إلّا وهو لا يهتدي إلى شيءٍ غيرِ الصَّدَقة، وكذلك يفعلُ البريديُّ بواسط والبصرة والدَّيلم والأهواز. وقد علمتَ أَنَّهم يأخذونَ أُصولَ الضِّياع والدُّور والعَقار، ويتجاوزونَ ذلك إلى الحرمِ والأولادِ، فاحسبْ أَنَّنا مثل هؤلاء، وأنَّ واحداً منهم صادرَكَ".
لم تنطْلِ حجَّةُ تبرير الظُّلم بالظُّلم على هذا التاجر البغداديِّ، فردَّ عليه قائلاً: "أَعَزَّكَ اللهُ، ظُلْمُ الظَّلَمَةِ لا يكون حجَّةً، والقبيحُ لا يكون سُنَّةً، وإذا وقفتُ أنا وأنتَ بين يَدَي اللهِ عزَّ وجلَّ، أترضى أن يكون هذا جوابك له؟ فأطرقَ مليّاً، ولم أشكَّ في أنَّه يقتلُني، ثمَّ رفعَ رأسه وقال: كم أُخِذَ منك؟ فصدقتُهُ. فقال: أَحْضِروهُ. فأُحضِرَ، فكانَ كما ذكرتُ. فأعطاني نصفَهُ.
فقلتُ له: الآن قد وجبَ حقِّي عليكَ، وصارَ لي بإحسانِكَ إليَّ حُرْمَةٌ. فقال: أجلْ. فقلتُ: إنَّ الطَّريق فاسدٌ، وما هو إلّا أن أتجاوزَكَ حتّى يُؤخَذَ هذا منِّي أيضاً، فَأَنْفِذْ معي مَن يُوصِلُني إلى المأمنِ. قال: ففعل ذلك. وسلمتُ بما أفلتُّ معي، فجعلَ اللهُ فيه البركة". حين قويَ هذا اللُّصُّ "الشَّريف"، واشتدَّت المنافسة بينه وبين لصوص الدَّولة في بغداد، فكَّرَ ابن شيرزاد، وكان الحاكمَ الفعليَّ القائمَ بمنصب الوزير، باستعماله استعمالاً إِجراميّاً، فهو قد عيَّنَهُ في الجُنْد، وبدل أن يعطيَهُ راتباً، صار يستحصل منه رسماً شهريّاً ثابتاً يدفعُهُ للدَّولة مقابل سرقاتِهِ قيمتُهُ خمسة عشر ألف دينار ممّا يسرقُهُ وأصحابُهُ. يقول مسكويه في حوادث سنة 332: "في صفر من هذه السَّنة ظهرَ لصٌّ يُقال له ابن حمدي، وكانَ أعيى السُّلطان، فخلع عليه ابن شيرزاد، وأثبتَهُ برسمِ الجند، ووافقَهُ على أن يصحِّحَ في كلِّ شهر خمسة عشر ألف دينار ممّا يسرقُهُ وأصحابُهُ، وأخذَ خطَّهُ بها، فكان يستوفيها منه، ويأخذُ البراءاتِ وروزاتِ الجهبذ بما يؤدِّيه أوَّلاً أوَّلاً". استمرَّت سرقات ابن حمدي مقابل نسبة يُعطيها للدَّولة مدَّةً طويلةً. وقد بعثت أعمالُهُ الرُّعبَ في قلوب الناس في المجتمع البغداديِّ. حتّى وصل الأمر إلى امتناع الناس عن النَّومِ ليلاً خوفاً من كبساته، وغالباً ما كانوا يستخدمون الأبواق لتنبيهِ بعضِهم باحتمال وصوله. وفي جمادى الآخرة من سنة 332، عيَّنَ القائد توزون أبا العبّاس أشكورج الدَّيلميَّ على شرطة بغداد. فتمكَّن أشكورج من إلقاء القبض على ابن حمدي وقتله. لكنَّ توزون هذا ما لبث أن سمل أشكورج هذا قبل وفاته سنة 343.