دراجةٌ هوائية فوقَ ناطحة سَحاب!
آراء
2021/06/26
+A
-A
محمد الحداد
قدرُ العظماء أن يلتقيَ مجدهم الشخصي بمجدِ البلاد.. رجل كانت أغلى أحلام طفولتهِ البائسة أن يمتلك دراجة هوائية بسيطة توصله إلى مدرستهِ البعيدة..لكن عزمه واصراره وشغفه بترويضِ المستحيل أوصله لأبعد من ذلك بكثير، حينما اعتلى أجنحة الأحلام وضرب مع ذلك المستحيل موعداً غيبياً غامضاً فارتقى بهِ حلمُ الدراجةِ القديم عالياً ليصعد أعلى ناطحاتِ السحاب!
تسلمَ مهاتير محمد السلطة في ماليزيا عام 1981في وقتٍ كانت فيهِ الصورة النمطية لكاريزما الزعماء هي السائدة وتنفثُ بوجهِ الضمير الجمعي العالمي الكثيرَ من دخانِ سِحرها الغامض.. تلك الصورة المركبة التي رُسمت تفاصيلها بالدماء وعفّرها غبارُ الحروب واختلطتْ فيها ألوانُ القسوة والرعب والتهور والبطش والمقامرة والمكر والخديعة..لكنَّ مهاتير تمكنَ وسط ذلك كلهُ من اعادةِ انتاج صورة مغايرة لذلك تماماً.
قبلَ ذلك كانت ماليزيا دولةً فقيرة جداً تعتمدُ زراعة الموز والأناناس وصيد الأسماك ويعيشُ أغلب سكانها في بيوتٍ بائسة من الصفيح ويتكون شعبها من خليطٍ متعددٍ من أتباعِ 18 ديانة أنهكتم الصراعات الطاحنة في ما بينهم. فما الذي فعلهُ مهاتير محمد في اثنينِ وعشرين عاماً حتى تمكنَ أن يُحلّقَ بماليزيا من أسفل دول العالم ليحجزَ لها موقعاً مؤثراً في القمةِ جنب الدول الناهضة؟ ما الذي يمثلهُ ذلك الزمن القصير من عُمرِ الشعوب ازاء الحضارة والمدنية والتقدم التي بناها رجلُ ماليزيا الأول؟ ما المستحيل الذي أنجزهُ مهاتير محمد مما لم ينجزهُ زعماؤنا العرب رغم امكانيات بلدانهم الاقتصادية التي تفوقُ مثيلاتها الماليزية بسنواتٍ ضوئيةٍ هائلة؟ هل سحرَ شعبهُ بخطبهِ الرنانة كما فعلَ غيره؟ هل نفخَ في بوتقةِ غرورهم القومي وعزفَ على أوتارهِ الاثنية أو الطائفية؟ هل وعدهم في حملتهِ الانتخابية أن يوصلهم إلى القمر؟ الحقيقة أنهُ لم يفعل ذلك قط. فاستدرار العواطف والتباكي على أطلالِ أمجاد الأجداد وحقن الشعوب بمزيدٍ من مورفين الوعود الزائفة لا يصنعُ المستحيلَ في السياسة ولا يرصفُ حجراً فوقَ حجرٍ في عالم الاقتصاد.
في صِباه ذاقَ مهاتير محمد مرارة الفقر المُدقع وعرفَ معنى أن يكونَ المرءُ فقيراً.. أوجعتهُ كثيراً قسوة الحياة في ماليزيا التي كبّلها الظلمُ والفسادُ والطبقية والبطالة وانهيارُ الاقتصاد وكان مهموماً بالبحثِ عن المفاتيحِ الضائعة.. أثخنتْ جراحُ البلادِ قلبهُ لكنها جراحٌ أينعتْ لاحقاً ثماراً يانعة.
أجادَ قراءةَ التاريخ وأطالَ التأملَ فيهِ متلمساً السبلَ التي مكّنتهُ أن يستلَ منهُ في ما بعد الكثيرَ من الدروسِ والعبر..صحيحٌ أنَّ الماضي شَغلهُ كثيراً بل كان مسكوناً بهِ لكنهُ كان يتصفحُ أوراقهُ بعيونٍ مشرعة نحو مستقبلٍ واعد.
في بواكير حياتهِ لم تستهو مهاتير محمد النماذج الأميركية والأوربية، بل كان معجباً بالنماذج القريبة الشبيهة بظروفِ بلاده مثل اليابان والصين وأندونيسيا ومصر وأبهرتهُ بشكلٍ خاص تجربتين كان يرى فيهما مثالين ينبغي الاقتداءُ بهما، لأنهما جسّدا نجاحاً باهراً حصدتْ ثمارهُ من قبل شعوبٌ طموحة: تجربة محمد علي في مصر.. وتجربة الميجي في اليابان.. كان النموذج الأول بعيداً في أقصى الخريطة، لكنهُ أثمرَ دولةً عصريةً قويةً في حينه.. أما النموذج الثاني «أعني الميجي» فكان الأقربَ لماليزيا جغرافياً حيث تجربة الامبراطور الياباني موتسوهيتو، الذي غرسَ الجذور الأولى لليابان الحديثة، حينما قادَ حركة إصلاحية ثورية بمقاييسِ عصرهِ قامت على مبدأٍ واحد هو «بلدٌ غني وجيشٌ قوي» وكان هدفهُ المعلن هو تغيير مسار التاريخ.. كلا النموذجين أضاءا لمهاتير محمد الدربَ الذي اختارهُ القدرُ للسيرِ فيه.
وفورَ استلامهِ دفة الحكم حسمَ للشعبِ جدلية الماءِ والسراب لينهي عقوداً طويلة من الوعودِ الزائفة التي خدرَ سابقوهُ بها الشعب. خمّرتْ عزيمتهُ التجاربُ فأشعلَ قنديلاً وسط ظلامٍ كان يبدو دامساً للجميع. وبذكائهِ وخبرتهِ عرفَ أقصرَ الطرقِ التي أوصلتهُ لاحقاً إلى وصفةِ الخلاص السحرية لماليزيا. استنفرَ الهمم وشمّرَ عن السواعدِ وقررَ أن يُنهيَ عصرَ الانغلاقِ والتبعية ففتحَ الأبوابَ والنوافذ للشمس ووضعَ القطارَ الماليزي على سكةِ العلم والتكنولوجيا الحديثة، وابتدأ ثورة البناء والاصلاح ثم تبددَ الضبابُ سريعاً وبدأت الأرقام تتكلم.
لم يكن مهاتير محمد في عملهِ يحبُّ التقاريرَ المثالية التي تُرفعُ إليهِ وتزينُ لهُ أن أمورَ البلاد كلها تسيرُ على ما يرام، بل كان يهتمُ بدقةِ التقارير التي تكشفُ الجوانب السلبية في البلاد. عن أحوالِ الفقراء وأرقامِ العاطلين عن العمل، وكان حريصاً على ايجادِ الحلولِ الحقيقية لها وعدم الخضوع لزيفِ المخارج الترقيعية والتخديرية. وبثقةٍ عاليةٍ بالنفس وفهمٍ دقيقٍ للعبةِ السوق الدولية أصرَّ مهاتير على عدم التفريط بالنقدِ الأجنبي، رافضاً الضغوط الدولية لجرِّ البلاد نحو سياسة التكبيل القاسية بقيودِ البنك الدولي الذي خيّرهُ بين الاقتراض الخارجي أو الفقر، لكنهُ رفضَ ذلك باصرار معتمداً على نفخِ الروح بجسدِ التنمية، وكانت النتيجة أن ماليزيا ركبت صاروخَ الاقتصاد وصعدتْ بهِ سريعاً نحو قمةٍ جاورتْ فيها الكثير من عمالقة اقتصاد العالم.
أعطى الأولوية للتعليم والبحث العلمي فقامَ بارسالِ الآلاف من الطلاب الماليزيين إلى الجامعات اليابانية وغيرها، وقامَ ببناء عاصمة إدارية جديدة وفق المتطلبات العصرية بتكنولوجيا متطورة بعد أن اكتشفَ أن كوالالمبور لم تعد تلبي متطلبات المرحلة الجديدة وكان قرارهُ أن تستوعب 7 ملايين نسمة عام 2020. وقررَ نقل مكتبه إلى هناك ليبدأ من نقطة الصفر. ومنذ البداية أعلنَ للشعب بوضوحٍ أن نظامَ البلاد المحاسبي يحكمهُ مبدأ الثواب والعقاب للوصول نحو النهضة الشاملة، فآمنتْ الجماهير بقدراتهِ وسارتْ خلفه. ابتدأ بقطاعِ الزراعة فأمرَ بغرسِ مليون شتلة نخيل زيت فى أولِ عامين من حكمهِ، لتصبحَ ماليزيا الدولة الأولى عالمياً فى إنتاج وتصدير زيت النخيل. وفي قطاع الصناعة حققت ماليزيا عام 1996 طفرة تجاوزت 46 بالمئة عن العام السابق بفضل القفزة الهائلة في انتاج الأجهزة الكهربائية والحاسبات الإلكترونية. أما في قطاعي السياحة والمال فقد فتحَ البابَ على مصراعيهِ بضوابط شفافة أمام الاستثمارات الأجنبية. كما قررَ أيضاً أن يكونَ المستهدف خلال عشر سنوات هو 20 مليار دولار بدلاً من 900 مليون دولار عام 1981 لتصلَ إلى 33 مليار دولار سنوياً. وتمكنت البلادُ ولأولِ مرةٍ من بناءِ أعلى برجين توأم فى العالم.
تركَ مهاتير محمد منصبهُ طواعيةً عام 2003 رغم مطالبة شعبه لهُ بالبقاءِ فترةً أطول، لكنهُ فضّلَ الرحيلَ ولم يتمسك بالسلطةِ حتى الموت أو يطمع فى توريثها لغيرهِ. وكان بوسعهِ أن يستثمرَ فرصة الاستئثار بكرسي الحكم فيملأ خزائنهُ ويغادر البلاد كما فعلَ غيرهُ، لكنهُ لم يفعل لأنهُ كان مهموماً بانتشالِ الشعب من فقرهِ المدقع ومسكوناً بحلم التحليق ببلادهِ نحو الرخاء والتقدم، فلم يترك الحكمَ إلا بعد أن حَوّلَ مدنَ الصفيح الى ناطحاتِ سحاب ورأى بعينيهِ كيف أن ماليزيا أصبحتْ رابعَ قوةٍ اقتصادية فى آسيا بعد الصين واليابان والهند، وارتفعَ دخلُ الفردِ فيها من أقل من ألف دولار سنوياً في عام 1981 إلى 16 ألف دولار سنوياً وأوصلَ الاحتياطي النقدي من 3 مليارات فقط إلى 98 ملياراً ورفع حجم الصادرات إلى 200 مليار دولار. ولم يكتف بذلك بل رسمَ لخلفهِ خارطة طريقٍ تنموية مكونة من خطةِ عملٍ طموحة طويلة الأمد أسماها عشرين عشرين استشرفتْ صورة ماليزيا المستقبل حتى عام 2020 وشخصَ مشكلات بلادهِ بدقةٍ ووضعَ لها الحلولَ
المناسبة.
نادرونَ جداً أمثال أولئك الزعماءِ الذين يطيبُ لي دائماً أن أسميهم بالغرباءِ الأنقياء في زمنِ عَفَنِ السياسة، والمؤسف أن التاريخَ لا يكررهم كثيراً رغم أنهم رسموا لنا صورةً مغايرة تماماً لما ألفناه من قبل. صورة البناة الحقيقيين الذين يعملونَ بصمتٍ لكنهم يملؤونَ السلالَ بالثمار وينثرونَ لِمن خلفهم وروداً عَطِرة من دروسٍ وعبر.