باحث عراقي يتوصل الى تحديد سنة ولادة الدّكتور مصطفى جواد

منصة 2021/06/27
...

  علي لفتة سعيد
توصل باحث عراقي مختص بدراسة سير أعلام النهضة في العراق الحديث، إلى تحديد سنة ولادة العلامة الدكتور مصطفى جواد، بعد أن تعددت اجتهادات الكتاب والباحثين والمؤرخين الذين تناولوا سيرته، وتضاربت آراؤهم في تحديد تاريخ ولادة هذا اللغوي والمؤرخ الذي يعد واحداً من أشهر الشخصيات الثقافية العراقية في القرن العشرين، والذي زادت من ذيوع صيته برامجه الإذاعية والتلفزيونية، وأبرزها برنامجه الشهير (قل ولا تقل).
الباحث حسين محمد عجيل الذي يعدُّ واحداً من أكثر المهتمين بدراسة التاريخ الثقافي العراقي في العصر الحديث، استناداً إلى المخطوطات والوثائق والمواد الأرشيفيَّة المتنوعة، وله العديد من المقالات والدراسات البحثية والكتب في هذا المجال، فضلاً عن اشتغاله في تحقيق مخطوطات التراث العربي ودراستها، عجيل أكد أنَّ «العلّامة الدكتور مصطفى جواد من ألمع الشخصيات الثقافية العراقية في القرن الماضي، وعرف باهتماماته الموسوعية، وبرز في عدة اختصاصات تصعب الإحاطة بها كلها، فكان عالماً في اللغة ومؤرّخاً وخِططياً وأكاديمياً ومجمعياً ومترجماً ومحققاً للتراث وخبيراً في المخطوطات ودارساً رائداً للفنون الإسلاميّة في العراق وباحثاً في التراث الشعبي، فضلاً عن كونه رائداً في الإعلام الثقافي في العراق».
وأضاف أنه كان «حجّة ومرجعاً للباحثين في مجال الدراسات التاريخية، ولا سيما في عصور الخلافة العباسية، وعلى الرغم من كلّ هذه الشهرة فإنَّ سنة ولادته ظلّت مجهولة». وأشار الى أنَّ «الجميع يعرف تاريخ وفاته ببغداد يوم 17 كانون الأوّل من سنة 1969، لكن لا أحد يعرف السنة التي ولد فيها ممّا شكّل مفارقة غريبة في سيرته».
 
جرأة ونبوغ
تبرز في كتابات مصطفى جواد الدقّة العلمية غير المتناهية، والمنهجية الأكاديمية، والاستقصاء والتوثيق، وهو ما أهلّه لأنْ يطرح أفكاره غير المسبوقة بجرأة وثقة، وكانت له آراءٌ مهمة انفرد فيها في ما يخص كثيراً من الشخصيات التاريخية عبر العصور التي مرَّتْ على العراق، بما فيها التحقيق في سير شخصيات مشهورة مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني، الذي قال إنَّ اسمه الجيلاني، وهو عراقي الأصل والمولد من قرية قرب المدائن تسمى (الجيل) وليس من منطقة كيلان الإيرانيَّة، مثلما كانت له برامج إذاعية وتلفزيونيّة يتابعها الكبير والصغير لما له من إمكانية على جذب المستمعين والمشاهدين إليه.
وكما يقول الباحث عجيل إنَّ «كتاباته وتحقيقاته ومقالاته ومراجعاته وأحاديثه الإذاعية والتلفزيونية اتّسمت بالإحاطة والشمول والتتبّع الذي لا مزيد عليه». ويقول عنه إنّه «المحقّق والمدقِّق والموثِّق المعوَّل عليه لحوادث التاريخ ووقائعه وتراجم الشخصيات المشهورة والمغمورة»، ويبدي الباحث عجيل إعجابه بنبوغه المبكّر، بقوله إنَّ ذلك النبوغ تجلّى بوضوح عند دخوله دار المعلّمين الابتدائيّة ببغداد، «ما مكنه من خطّ طريقه إلى البروز المبكّر سنة 1923، بظهور نتاجه في مجلّات عراقيَّة وهو في السابعة عشرة من عمره. فلا عجب أنْ ينشر سنة 1928 تلك المقالات اللغوية والتاريخيّة الرصينة في مجلّة (لغة العرب) الشهيرة بعد خمس سنين من بدء نشره قصائد ومقالات بكثافة لافتة في ثلاث مجلّات بغدادية كانت تصدر في دار المعلّمين الابتدائية نفسها».
 
تضارب الآراء في تاريخ ميلاده
إنَّ مجهوليّة تاريخ ولادة مصطفى جواد تتعدى تحديدها باليوم والشهر، إلى مجهولية السنة التي ولد فيها، فقد تضاربت أقوال دارسي سيرته وتعدّدت ترجيحاتهم في ذلك، وإذا كان ربما الجميع يعرف تاريخ وفاته في السابع عشر من كانون الأول 1969، فإنَّ تاريخ المولد يتفاوت لدى كثير من الباحثين، فمنهم من يرى انه ولد سنة 1904، وهو أمر يراه الباحث عجيل غير دقيق، ويضيف أنَّ «مجهولية تاريخ ميلاده الشخصي، شكّلت مفارقة غريبة في سيرته؛ فقد كان هو بنفسه مَن يستنبط أدقّ التفاصيل عن سير الشخصيّات التاريخيّة، ولا سيما في العصر العبّاسيّ، وتواريخ ولاداتهم ووفياتهم» ويشير الى أنَّ «ما زاد في حيرة دارسي حياته أنَّ مصطفى جواد نفسه كان يدلي ببعض الأقوال المتناقضة في أوقات مختلفة من عمره، حتى بلغ من تناقض الآراء في هذا الشأن أنْ أصبحت الرقعة الزمنيّة لتاريخ مولده شاسعة، فهي تمتد بين سنة 1883 وسنة 1910، وكأنّه عاش في عصور موغلة في القدم».
 
جمع الوثائق وتتبع الخيوط
وحتى يتحقّق الباحث من تحديد تاريخ المولد أو في الأقل السنة التي ولد فيها، أخذ يتحرّى المعلومات ويجمع الوثائق ويتتبع الخيوط من خلال فرز التفاصيل الدقيقة ثم الربط بين المعلومات المتنافرة، وصولاً إلى القرائن والأدلة، في بحث علمي وصفه بقوله «ابتدأت بمناقشة الآراء المثارة مناقشة علميّة، وتوظيف التفاصيل الصغيرة في كل المصادر والمراجع ذات الصلة بالموضوع، مستفيداً ممّا رواه مصطفى جواد نقلاً عن أسرته، وما قاله هو عن حياته المبكّرة، لصياغة قرائن منطقية»، ويمضي بقوله إنه «ومن خلال ربط هذه القرائن مع بعضها البعض، ومع معطيات سيرة ذاتية مبكّرة غير معروفة لدى الباحثين المختصّين به كشفتُ عنها النقاب وجدت أنّ معظم ما حُدِّد من تواريخ قد سقط في مراحل عملية البحث الاستقصائي، كاشفاً «ما وقع من اضطراب لدى بعض الباحثين عند تناولهم التقويم الهجري الشمسي، الذي اعتمدته الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر»، وذكر أنه تمكّن من الحصول على وثيقة رسمية بخط يد مصطفى جواد ورجع إلى آخر لقاء أُجريَ معه قبل أيّام من رحيله ليصل الى «استنتاج منطقي مستند للقرائن إلى أنّه ولد في أحد شهور سنة 1906». ولفت الى أنه تمكّن من توظيف التقويم الهجري الشمسي الذي كان له أثر حاسم في التوصل إلى هذا الكشف، الذي يجلي صفحة مهمّة من سيرة هذه القامة العراقيّة».
 
خيوط أخرى
يعتقد الباحث أيضا أنَّ مصطفى جواد، الذي نبغ مبكّرا، كان يميل في مستهلّ حياته العملية والأدبية ودخوله دار المعلمين إلى «محاولة زيادة عمره بضع سنين؛ لأنّ له طموحاً في حجز مكان له بين النخبة من مثقفي بغداد، وقبول الآخرين به كشاب له طموح أدبي كبير»، ويرى أن هذا أحد الخيوط التي يسّرت عليه مهمّته، في فهم تضارب أقوال مصطفى جواد نفسه في هذا الشأن خلال مراحل عمره المختلفة.
وعن الخيط الآخر يركّز عجيل على ما قاله مصطفى جواد في آخر لقاء له عبر تلفزيون بغداد إنَّ «التاريخ الحقيقي لي غير مضبوط بالعهد العثماني لأنَّ الآباء يزيدون احياناً وينقصون في سن أبنائهم بسبب الخدمة العسكرية»، وإنه قال في تلك المقابلة أنَّ الصحيح  (1907 – 1908) ولكن مسجل بالرسميات 1910»، ويعزز إمساكه بالخيوط من أنَّ مصطفى جواد كتب بخط يده بيان عضوية المجمع العلمي العراقي (1963 – 1964) وقد دوّن فيه أن 1908 هي سنة ولادته».
ويشير الباحث الى أنَّه تلمّس قرينة تعين الباحث على الوصول تاريخ مولده، في السيرة الذاتيّة المقتضبة التي نشرها مصطفى جواد في جريدة (كلّ شيء) البغدادية سنة 1964، فقد حدّد فيها أنّ أسرته انتقلت إلى دلتاوة (قضاء الخالص حاليا بمحافظة ديالى) وكان عمره ست سنوات، وبربطها بمعلومة أخرى ذكرها في لقائه التّلفزيونيّ الأخير مفادها أنه قضى سنة أو سنتين في كُتّاب الملّة صفيّة بدلتاوة، يمكن الاستنتاج بأنّه دخل المدرسة الابتدائيّة وعمره 7 - 8 سنوات، وهي معلومة «، ويرى أنَّ هذه المعلومة ستكون ذات قيمة إذا رُبطت بما ورد في سيرته الذاتية الموسّعة المنشورة سنة 1969 في كتاب يوسف عزّ الدين «شعراء العراق في القرن العشرين»، من أنّه كان في الصّفّ الثالث الابتدائي حين احتل الانكليز بلدتَه دلتاوة في آذار 1917، وهو ما يعني أنّ سنة دخوله الى المدرسة الابتدائيّة كان سنة 1915 وتحديداً في شهر أيلول منه».
ويلفت الباحث الى خيط آخر قرينة أخرى وجدها في بيان عضويّة مصطفى جواد في المجمع العلمي العراقي 1963، فقد دوّن مصطفى جواد في البيان أنّ 1908 هي سنة ولادته، ووضع بإزاء هذا التّاريخ، تاريخاً آخر هو 1321 روميّة، وهو تقويم اتخذته الدّولة العثمانيّة في سنة 1256هـ (= 1840م)، لأسباب اقتصاديّة وماليّة، وقد ظنّه بعض الباحثين المعروفين التقويمَ الهجريَّ المعتاد وليس الأمر كذلك. 
 
الصبي مصطفى جواد واحتلال دلتاوة
ويذكر الباحث أنه أفاد كذلك ممّا كتبه مصطفى جواد في سيرته عن تجربته المريرة في بلدته دلتاوة إبان احتلال الإنكليز الثاني لها ضمن أحداث ثورة العشرين، وقال: «ذكر مصطفى جواد تفاصيل تلك الواقعة التي جرت في يوم عاشوراء الحزين، العاشر من محرّم سنة 1339هـ (الموافق ليوم 25 أيلول 1920) وما فعله الإنكليز من فظائع التّنكيل بالثوار والمقاومين وعموم الأهالي عقب سيطرتهم على البلدة»، وأورد الباحث نص ما كتبه مصطفى جواد: «وكنت فيمن خرج لرؤية الطيارة المُسقَطة، فلم ألق إلا شآبيب الرصاص، فنكصتُ مع صبية آخرين كانوا يحبون الاطلاع، وهربت معهم... ودخلنا دلتاوة في اليوم الثّاني عصراً، بعد أن سمعنا الهدوء فيها، وكنّا صغاراً لا نُعد من حملَة السّلاح»، وأفاد بأنَّ «ما يهمنا هو كلمة الصبية الصغار.. فلو أنّه كان من مواليد 1904 كما يرجّح بعض الباثحثين «لكان عمره آنذاك قد ناهز السابعة عشرة، وهو عمر لا يمكن أنْ تنطبق عليه أوصاف مصطفى جواد في تلك الواقعة، ولكان بالتأكيد في جملة حمَلة السلاح والمقاومين للاحتلال الإنكليزيّ» ولو أنّه من مواليد 1901 أو 1902 بحسب ما قاله باحث آخر «لكان عمره في تلك الواقعة 19 أو 20 عاماً، ولكان وصف نفسه بالفتى أو الشاب». 
ويؤكد الباحث أنّ هذه الخيوط البحثية والتحقيقية وغيرها من الأدلّة والقرائن «تتضافر كلّها لترجّح بقوّة أنّ ميلاد مصطفى جواد وقع في أحد شهور سنة 1906، وتحديداً بعد يوم 14 آذار من تلك السنة، وهذه القرائن كافية لاعتمادها في المؤلّفات والكتب والأطاريح الجامعيّة والأبحاث والدراسات والمقالات التي تتناول سيرته الشخصيّة». 
 
بين التأليف والترجمة والتحقيق
لمصطفى جواد مؤلفات عديدة سواء في تحقيق المخطوطات والتاريخ وعلم الخِطط واللغة والشعر والأدب والترجمة، كان أولها تحقيقه لكتاب (الحوادث الجامعة) الصادر سنة 1932، و(سيدات البلاط العباسي) و(المباحث اللغوية في العراق) و(سيرة أبي جعفر النقيب) و(خارطة بغداد قديما وحديثا) و(دليل خارطة بغداد) بالاشتراك مع الدكتور أحمد سوسة، و(قل ولا تقل)، و(دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم). وحقّق (رسائل في النحو واللغة) بالاشتراك مع يوسف يعقوب مسكوني، وترجم عن الفرنسيّة (رحلة طالب خان إلى العراق)، كما ترجم الكتاب القصصيّ (الأميرة خلف وأميرة الصين) عن الفرنسيّة أيضا، وأسهم في ترجمة كتاب بجزأين عن الإنكليزية عنوانه (بغداد مدينة السلام) بالاشتراك مع فؤاد جميل، فضلاً عن مشاركته في وضع (دليل الجمهورية العراقية لسنة 1960) مع محمود فهمي درويش وأحمد سوسة، وكتاب (بغداد) مع المعماري محمد مكية وآخرين، وله ديوان شعري لا يزال مخطوطاً حمل عنوان (الشعور المنسجم)، وغيرها من الكتب.