إيران تريد ورقة ضغط لا سلاحاً نووياً

آراء 2021/06/28
...

 ماركوس سولارز هندركس
 
 ترجمة وإعداد: أنيس الصفار 
تبدأ ستراتيجية ايران الكبرى وتنتهي بقضية واحدة هي «البقاء». فبسبب الظروف المائجة التي احاطت بقيام الجمهورية الاسلامية، ولكونها نتاج ثورة مناهضة في توجهاتها للعالم الغربي ودول اخرى في المنطقة، أفصح هذا المنظور عن نفسه بشكل خاص في علاقاتها الخارجية. فقيادة الجمهورية الاسلامية الايرانية شديدة الحرص على صون «الجمهورية الاسلامية» وحفظها،
 
ونظراً لكون هذه «الجمهورية الاسلامية» مهددة بالضغوط من الداخل ومحاولات التركيع من الخارج باتت قدرتها على البقاء مرهونة بأمرين، انتهاء الضائقة الاقتصادية الخانقة وامتلاك قدرة الدفاع عن النفس بوجه أي هجمات محتملة يشنها اعداء دوليون او اقليميون. هاتان الأولويتان المركزيتان أساسيتان لفهم الستراتيجية التي توجّه مسار الازمة النووية الحالية، ثم انهما فضلاً عن هذا تكشفان عن أن ايران ليست راغبة حقاً في امتلاك سلاح نووي، وان كل ما تبتغيه هو ورقة ضغط بيدها تمكنها من مواصلة برنامجها الاقليمي الأوسع.
تواجه إيران منذ العام 2018 عقوبات أميركية شاملة، وكانت نتيجة ذلك أن راحت تصعد وتائر ابحاثها النووية، والسؤال الملح الان هو: ترى هل انتهت طهران الى ان الضمانات الدفاعية التي يوفرها التسلح النووي، قد رجحت كفتها على كفة العواقب التي ستجرها عليها حتماً وثبتها النهائية صوب القنبلة؟ قد يبدو السلاح النووي ضماناً منطقياً بوجه دواعي قلق إيران على كيانها، ولكن الستراتيجية الأمنية اللامتناظرة التي تمارسها إيران تمنحها وسيلة سياسية اكثر مرونة لا يوفرها السلاح النووي. فعلى مدى العقد الأخير كانت وسائل إيران في الحرب اللامتناظرة، باستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة والاستعانة بالحلفاء، تخضع لتعيير موزون بدقة بالغة قبل ان تستخدم ضد الخصوم كسياسة دفاع هجومية. هذه الوسائل، الى جانب فعاليتها، لن تجر على إيران سوى تبعات محدودة الأثر، كما انها لن يمكن تقييدها بموجب الاطار الحالي للصفقة. لكن من وراء هذا المنطق الستراتيجي تكمن عوامل اخرى تجعل من تخفيف العقوبات هدفاً اكثر جاذبية للجمهورية الاسلامية من السلاح النووي على المدى المتوسط، وهذه العوامل تنبع من السياسات الداخلية للجمهورية الاسلامية.
لقد أوجدت سياسة «العقوبات القصوى» التي فرضتها ادارة ترامب تهديداً وجودياً للجمهورية الاسلامية من داخلها، حيث تسبب الاستنزاف الاقتصادي بتصاعد ملحوظ في وتائر الاضطرابات الداخلية بعد أن أصابت العقوبات الاقتصاد الإيراني بالانهاك. ورغم دلالات التعافي المتواضعة فإن التضخم لم يبدِ اشارات تدل على قرب انحساره وبقي الريال الايراني ضعيفاً كما استمرت البطالة. كل هذا لم يركع الجمهورية الاسلامية ولكن الظروف الاقتصادية ولّدت ضغطاً داخلياً مهدداً للاستقرار اذا طال اكثر مما ينبغي.
السبب الاخر الذي يجعل احتمالات سعي إيران الى امتلاك قنبلة نووية أضعف هو ان الاندفاع نحو التسلح النوووي قد يطلق دورة من الافعال وردود الافعال من شأنها الاضرار بهيبة النظام وربما حتى تهديد وجوده، فاسرائيل سبق ان استهدفت مواقع نووية إيرانية في اكثر من مناسبة كان آخرها الهجوم السبراني على مفاعل نتانز، وهذا النوع من الضربات الخفية قد يتواصل ويتوسع حتى يشمل المواقع التقليدية ايضاً، وإذا ما حثت إيران خطاها نحو القنبلة، فقد تتلقى ضربات اجهاضية ثقيلة من اسرائيل وعندئذ سيتحتم عليها الرد بالمثل على نحو ربما يؤدي الى توسيع العقوبات الاميركية عليها، أو حتى اشعال حرب مع الولايات المتحدة نفسها وهذا هو الأسوأ. لقد حرصت ايران حتى الان على التحرك ببطء وثبات، مثلاً من خلال تخصيب اليورانيوم بكميات قليلة في منشآت على سطح الأرض، لأن القيادة الإيرانية متنبهة بوعي شديد الى ما يمكن أن تكون عليه صورة الفعل ورد الفعل وتبعات ذلك، لذا فهي تفهم ان بوسعها تحقيق مصالحها بشكل افضل من خلال ترك الهرولة صوب القنبلة.
الفائدة الستراتيجية الثالثة للبرنامج النووي هي صرف الانتباه الدولي، والاميركي خصوصاً، عن السعي لمحاصرة إيران اقليمياً. فإيران تستطيع متى شاءت ان تدير عجلة ابحاثها الى الوراء مقابل تخفيف العقوبات لتعلن ادارة بايدن ان المهمة قد انجزت، وبعد تخفيف العقوبات تتاح لإيران الموارد المطلوبة للاستمرار ببرامجها. من المستبعد طبعاً ان توافق إيران على التفاوض بشأن مرتكزات امنها ونفوذها، لكن الاهم من ذلك هو ان كل ما اكتسبته خلال السنوات الثلاث الاخيرة قد اصبح ملكاً محسوماً لها، والقدرة على اختزال زمن الانفلات النووي باتت لها تفيد منها متى تشاء. بذا تكون إيران قد غنمت مغانم بعيدة المدى من اندفاعتها الأخيرة وأصبحت مستعدة للتعامل مع اية تهديدات مستقبلية لأمنها الستراتيجي.
العنصر الجوهري الأخير في سياسة الضغط النووي الايرانية هو آليات صناعة القرار داخلياً في الجمهورية الاسلامية، فالأزمة النووية القائمة توقع المتابعين دائماً في مصيدة الافتراض بأن إيران كلما صعّدت دورة برنامجها النووي كان ذلك دلالة على أن القرار حسم بالانتقال من سياسة الضغط الى حيازة الرادع النووي. لكن عند تحليل الستراتيجية الايرانية كثيراً ما يغفل المحللون مبدأ «المصلحة» وما يعنيه للقيادة الإيرانية، وهذا يستدرجهم للانسياق وراء التصور بأن ايران جادة بعزم على حيازة السلاح النووي مهما تكن العواقب. بيد ان الفطنة الستراتيجية والحرص اللذين ابدتهما زعامتان تاريخيتان كبيرتان حتى الان ينفيان هذا التصور من اساسه، والرهان على احتمال ان يقود خامنئي المشروع النووي الإيراني حد التسلح يتنافى مع وقائع التاريخ والمنطق العقلاني اللذين برهنت عليهما مواقف سابقة.
عند أخذ اولويات إيران المتكاملة في السياسة الخارجية بمحاورها الثلاثة: النووي والصاروخي والاقليمي، ترتسم امامنا ستراتيجية كبرى متماسكة. فالنشاط النووي المتسارع هدفه الضغط على الولايات المتحدة كي ترفع العقوبات، بذا يتاح للجمهورية الاسلامية متنفس اقتصادي حيوي، والى حين تحقق الصفقة ستبقى بيد طهران فرصة الاقتراب اكثر من العتبة النووية وهذه لا رجعة فيها. امتلاك المعرفة الفنية والخبرة العملية سيجعلان من اعادة فرض العقوبات مستقبلاً، من قبل اية ادارة اميركية حالية او مستقبلية، مجازفة خطرة. 
عند التطلع الى المستقبل ترى إيران ان بوسعها استثمار هذا الملعب الجديد في كفّ اية محاولات غربية للجم برنامجها الصاروخي او نشاطها الاقليمي، بذا ستؤمن إيران لهذه الاجراءات الأمنية سياسة ضامنة تجعل الالتفاف عليها شديد الصعوبة. لقد استخدمت إيران القنبلة النووية كذراع ضغط وهي غير راغبة في الحصول عليها.. ويبدو أنها ستراتيجية ناجحة.
 
عن موقع «ذي ناشنال إنتريست»