عبدالامير المجر
نعيش هذه الايام ذكرى ثورة العشرين التي استقرت في الضمير الجمعي العراقي على انها المحطة الابرز في تاريخ العراق المعاصر، وبعيدا عن مدى الاتفاق او الاختلاف مع بعض الحيثيات التي رافقتها، يبقى الاهم في تلك الثورة، انها عكست مواقف وطنية مشرّفة للعراقيين.
ووعيا ملحوظا لنخبهم الثقافية والسياسية والاجتماعية، في مرحلة زمنية كانت فيها الامية متفشية، وتغييب شبه تام لفكرة الوطن بمفهومه السياسي لقرون قبلها، فضلا عن لعب الدول الطامعة، التي تبادلت مراحل احتلال العراق، على الوتر الطائفي لتحقيق اهدافها بالسيطرة عليه ونهب ثرواته، ومن يقرا كتاب (اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) لمؤلفه ستيفن هيمسلي لونكريك، سيطلع على حجم الاهوال التي عاشها العراقيون في ظل حكم الاغراب وتحكمهم بمصائرهم، بعد سقوط بغداد في العام 1258 م.. وقد وجدت ان الاحتفاء بالمناسبة يكون له طعم يشبهها، حين نستحضر روحنا العراقية التي تألقت خلالها، لاسيما اننا الان بحاجة الى التذكير بهذه الوقائع المهمة ولكي يطّلع عليها هذا الجيل من خلال الصحافة ووسائل الاعلام المباشرة، بعد ان ضمتها دفات كتب تاريخية كثيرة ربما لاتكون بمتناول الكثيرين اليوم، لاسيما الشباب منهم.
فبعد اندلاع الثورة وتمددها السريع باتجاه المدن الوسطى والشمالية، اقام (ليجمن) القائد الانكليزي المعروف، قبل مقتله على يد أحد اولاد الشيخ ضاري المحمود الزوبعي في الواقعة الشهيرة، وليمة دعا اليها شيوخ الفلوجة والمحمودية، وقد خطب خلالها بالشيوخ الذين كان من بينهم الشيخ ضاري، ضاربا على اوتار الطائفية التي كان الانكليز وقتذاك بحاجة لاثارتها، كون الثورة، كما هو معروف اشتعلت شرارتها الاولى في الفرات الاوسط وانطلقت من هناك لتعم العراق فيما بعد.. قال لجمن؛ ان الحكومة البريطانية حائرة في امركم، لا تدري هل تشكل حكومة شيعية او سنية، فرد عليه الشيخ ضاري، ((ان العراق ليس فيه شيعة او سنة، بل فيه علماء اعلام نرجع اليهم في امور ديننا)).. وعندما قال (ليجمن) مخاطبا العشائر بالقول؛ انتم عشائر والاجدر بكم ان تكونوا مستقلين، رد عليه الشيخ ضاري ايضا ((ان علماءنا حكومتنا وقد أمرنا القرآن بإطاعة الله والرسول وأولي الامر منا، فاذا اعتديتم عليهم فإننا سننتصر لهم ونحاربكم بجانبهم والاولى ان تلبوا ما ارادوا)).
يذكر البروفسور علي الوردي في كتابه الشهير (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الجزء الخامس – حول ثورة العشرين)، ان الثوار كانوا قد ارسلوا وقتذاك، مندوبا عنهم الى شيوخ الفلوجة والمحمودية، يحمل فتوى المرجع الشيرازي وكتابا من هبة الدين الشهرستاني، وحين وصلهم، وجد الشيخ ضاري على اتم الاستعداد لإعلان الثورة، وقد رد على تلك الدعوة بالقول: ((اني عربي ووطني وعراقي، وها اني ابذل كل ما لدي من نفس ونفيس في سبيل مصلحة بلادي ضد الظالمين، ولينعم العلماء واخواني الزعماء عيناً، وها اني باسم الله سأعمل وستسمعون اعمالي وترونها، تلك الاعمال التي سوف يرضاها الله وترضونها انتم ان شاء الله)).
على الذين يتحدثون اليوم عن اقليم في الانبار او في البصرة او غيرهما، ان يتذكروا هذا الارث الوطني المشرّف ولا يفرطوا به، لأنه بات بمثابة امانة في اعناق الاجيال، فالأمم تراكم رأسمالها المعنوي بهذه المواقف وتعمل على تكريسها، من خلال التذكير بها سواء بالكتابة عنها باستمرار، او من خلال الفن والثقافة ووسائل الاعلام المرئية المتمثلة بالفضائيات التي باتت تبث على مدار الساعة وتصنع الوعي الشعبي او تعيد صياغته، وعلينا ان نستثمر كل هذه النوافذ الحضارية لندافع بواسطتها عن وحدة بلادنا، مثلما دافعنا عنها بالسلاح من قبل ..!