ثنائية العدالة والاستبداد في ثقافتنا الحديثة

آراء 2021/07/01
...

 عطية مسوح
 
انشغل المفكرون العرب في عصر النهضة (القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين) بدراسة الواقع العربيّ في ظروف تفسّخ الدولة العثمانيّة، كما انشغلوا بالبحث في سبل التحرّر السياسيّ والنهوض الاجتماعيّ والاقتصاديّ والعلميّ، وبما يمكن أن تكون عليه علاقة المجتمعات العربية بالدول الغربية المتحضّرة/ الاستعماريّة، كي نستفيد من تحضّرها وتقدّمها، ونتجنّب مخاطر نزعاتها الاستعماريّة. 
وأثمر ذلك الانشغال نتاجاً فكريّاً هائلاً، هو ما اصطلح على تسميته (فكر عصر النهضة العربيّ)، يجد فيه من يطلع عليه اتساعاً وعمقاً مدهشين، ويقف أمامه بإعجاب واحترام كبيرين.
يلمس قارئ ذلك الفكر تركيز الكثير من المفكّرين على أهمية الديمقراطية في الحياة السياسية والثقافية، واجدين فيها رافعة النهوض الأهمّ، ومنطلق التقدّم في مختلف المجالات. وبرغم تباين فهم المفكرين للديمقراطيّة وأشكال تطبيق مبادئها، فإنّنا نجد أنّ أهمّ تلك المبادئ كانت موضع اتفاق تقريباً.
وفي سياق البحث عن سبل النهوض جاءت فكرة (المستبدً العادل)، وهي ذات جذور عميقة في تراثنا الفكريّ والسياسيّ. 
وكانت الحُجّة الأولى لطارحي هذه الفكرة أنها الوسيلة الأكثر انسجاماً مع واقع المجتمعات العربية التي لا تلائمها الديمقراطية، إذ تنتشر فيها ثقافة تمجيد الفرد والانسياق الأعمى وراء ما يطرحه، ولأنّ ثمّة من سيسيء استخدام الانتخابات الحرّة وحرية الصحافة وغيرهما من مظاهر الديمقراطية، ويجعلها وسيلة لخدمة مصالح ضيقة.
وكما ظهرت الدعوة إلى الديمقراطية لدى مفكرين كبار، أوّلهم رفاعة الطهطاوي الذي أعجبَ بالحياة السياسية والثقافية في فرنسا، وقدّم عنها صورة جذابة للقارئ العربي في كتابه الرائد:(تخليص الإبريز في تلخيص باريز) الصادر عام 1834، ومن أبرزهم أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى وخالد محمد خالد في مصر، ونظراء لهم في أصقاع عربية أخرى، كذلك دعاة فكرة المستبد العادل، كانوا مفكرين كباراً، تركوا أثراً مهماً في الفكر العربي الحديث. 
وتنوّعت المسوّغات التي قدّمها المفكرون الذين طرحوا فكرة المستبد العادل، والأهداف الوطنيّة والقومية التي يرمون إلى تحقيقها من خلال وجود حاكم مستبدّ عادل. 
فالمفكّر النهضويّ الإمام محمد عبده، وهو رائد تيار الإصلاح الديني في العصر الحديث، يجد في المستبدّ العادل حاكماَ قادراً على السير بالمجتمع في طريق النهوض السريع، يقول: "هل يُعدَمُ الشرقُ كلّه مستبدّاً من أهله، عادلاً في قومه، يتمكن من العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقلُ وحده في خمسة عشر قرناً؟" ولا ضرورة للتوقف عند المبالغة التي تظهر في الرقمين المذكورين، فالفكرة هي أنّ المستبدّ العادل قادر على النهوض السريع بالمجتمع الذي يحكمه.
أمّا المفكّر النهضويّ الدكتور عبد الرحمن الشهبندر فيسوّغ دعوته إلى فكرة المستبدّ العادل بتجنيب المجتمع الفوضى، ولا سيّما المجتمعات المتأخّرة الباحثة عن طريق للنهوض، أو كما يقول (المجتمعات غير المتعوّدة على الأساليب الدستوريّة). 
يقول الشهبندر في كتابه المتميّز (القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربيّ): "إذا كان البلد متمتعاً باستقلاله التامّ، فخير ما يناله أن تتاح له يدٌ مستبدّة عادلة تنقذه من الفوضى التي تتخبّط فيها أكثر الأمم الحاضرة، خصوصاً من كان مثلنا حديث عهدٍ بالشؤون الدستورية". 
ولم يخلُ شعرنا العربيّ الحديث من قصائد أو أبيات تزيّن الاستبداد العادل. فالشاعر والسياسي النهضويّ الكبير بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) المعروف بالنزوع الديمقراطيّ وسماحة الفكر والتعامل، يقول في رثاء السياسيّ سعد الله الجابريّ، رادّاً على خصومه:
زعمَ الخصمُ أنّه مستبدٌّ حبّذا الحكم عادلاً مستبدّا
ولا تقتصر فكرة المستبدّ العادل على الحاكم الفرد المتفرّد بالقرار، الذي يسعى إلى لفّ الجميع حول شخصه وإخضاعهم لقراراته، بل تشمل أيضاً الحزب أو الحركة السياسيّة التي تتصوّر نفسها قادرة على الانفراد بالحكم، وترى ذاتها حزباً قائداً للدولة والمجتمع وتُثبّتُ ذلك في الدساتير والقوانين، وتمنح أعضاءها امتيازات لا تخوّلهم إيّاها قدراتُهم الشخصيّة وصفاتهم ومواهبهم.
وبغضّ النظر عن حُسن نوايا المفكّرين الذين طرحوا فكرة المستبدّ العادل، فإنّ مناقشة هذه الفكرة مناقشة موضوعيّة مستندة إلى دروس التاريخ الحديث، ستصل بنا إلى أنّها فكرة لا تُناسب المجتمع الباحث عن سبل النهضة والتقدّم، بل إنّها ضارة يجب إلغاؤها من قاموسنا السياسيّ والنظر إليها بوصفها فكرة عابرة مرّت في فكرنا العربيّ وتجاوزها الزمن.
إنّ فكرة المستبدّ العادل تقوم على مفارقة لا يقبلها المنطق الصوريّ أو الجدليّ أو غيرهما، فهي تجمع بين الاستبداد وهو نقيض العدل المُطلق، والعدل وهو نقيض الاستبداد المطلق. 
المستبدّ يميّز نفسه من الآخرين ويضع ذاته فوقهم، وهذا يحدّ ذاته مناقض للعدل، لأنه يُلغي العدل السياسيّ. 
وحين يُلغى العدل السياسيّ، أي الديمقراطية السياسية، ينتفي المناخ المناسب للنضال في سبيل العدل الاجتماعيّ والاقتصاديّ، فيضعف العدل على هذا المستوى ويتلاشى. 
لقد دلّت التجارب السياسيّة في العصر الحديث على أنّ أفضل مناخ للنضال من أجل العدالة هو مناخ الديمقراطية السياسيّة، وأنّ الاستبداد الذي يلغي تلك الديمقراطيّة يلغي العدالة الاجتماعيّة أيضاً. 
 
    كاتب وباحث من سورية