د. يحيى حسين زامل
تأتي تسمية هذا المقال بـ «نخلة الحضارة» بوصفها رمزاً يشير إلى الثقافة العراقية وانتشار النخلة في حضارتها، بل ولأن النخلة سمة مميزة تتميز بها الثقافة العراقية وحضارتها، ويأتي العنوان أيضاً تماهياً مع كتاب «شجرة الحضارة» للأنثروبولوجي الأميركي «رالف لينتون»، وهو يرمز إلى شجرة «البانيان» «التين الهندي» التي تتدلى فروعها إلى الأرض فتنبت اشجاراً جديدة، وذلك إشارة إلى أن الحضارات في العالم ترجع لشجرة واحدة ثم تفرعت بواسطة الفروع والسيقان الى فروع جديدة والسؤال الذي يطرأ على الذهن: فهل أن الحضارة العراقية ونخلتها كان لها أصل واحد ثم تفرعت مثل شجرة الحضارة العالمية، أو نشأت من تفرعات أخرى ومن حضارات أخرى؟
يشير الكثير من المؤرخين إلى أن الحضارة السومرية من أقدم الحضارات في العالم، إذ بدأت معهم اللغة والكتابة والقوانين والفنون والآلات والأدوات التي تساعد الإنسان في حياة أفضل، وقد عبّر الأنثروبولوجيون عن هذا بالثقافة، وقسَّموها إلى ثقافة مادية وغير مادية، والمادية هي الأدوات والآلات المصنوعة من الأحجار والمعادن والأخشاب والجلود، وغير المادية هي اللغة والكتابة والمعارف المهارات والفنون الأدبية التي بواسطتها يعبَّرون عن أفكارهم وهواجسهم وما يريدون إيصاله إلى الطرف الآخر، والمعروف أن حاكم أوروك «گلگامش» كان معاصرا لحاكم كيش المدعو «اككا» «Agga»، وهو صاحب الملحمة الأدبية الرائعة ملحمة «گلگامش»، وترك السومريون في جنوب بلاد الرافدين تاريخاً حافلاً من الألواح الطينية المدونة بالخط المسماري، وتشير التواريخ الثقافية إلى ظهور اسم «سومر» في بداية الألفية الثالثة ق.م. وشيِّدوا المدن السومرية الرئيسة كأور ونيبور ولارسا ولكش وكولاب وكيش وإيزين وإريدو وغيرها، وظلت الكتابة السومرية 2000 عام، لغة الاتصال والحضارة بين دول الشرق الأوسط في
وقتها.
العراق موطن النخل الأصيل
يعد العراق موطن النخل الأصيل، ويعرف أيضاً بـ «أرض السواد» لتكاثف غابات النخيل فيه، وفي الجنوب حيث الشمس عمودية في أكثر ساعات اليوم، إذ يحتاج النخل تلك الحرارة المرتفعة حتى يتم نضج ثمار النخل والرطب، ويقولون في المحكية العراقية الدارجة «طبّاخات الرطب»، وتكمن الغرابة المحضة في التشابه العجيب بين النخلة والإنسان، من الاندفاع والانتصاب والوقوف، وتكمن روح كل منهما في رأسه، ولو أنك قطعت رأس أحدهما مات في الحين واللحظة، وفي الثقافة الاسلامية أطلق عليها الرسول الكريم «ص» «ابنة عمّ الإنسان»، ومثل هذه السمات ألهمت عالماً عربياً فوضع النخلة والإنسان في سلة واحدة، إذ رصد «كمال الدين القاهري» صفات مشتركة فالنخلة: «ذات جذعٍ منتصبٍ، ومنها الذكر والأنثى، ولا تُثمر إلا إذا لُقّحت، وإذا قـُطع رأسها ماتت، وإذا قُطع سعفها لا تستطيع تعويضه من محله، كما لا يستطيع الإنسان تعويض مفاصله، والنخلة مغشّاة بالليف الشبيه بشعر الجسم في الإنسان»، وهي الشجرة الوحيدة التي تستوفي جميع هذه الصفات وأكثر، لذك كانت رمزاً وجسداً للثقافة العراقية بقدمها وهويتها وديموميتها.
النخلة.. خصائص ثقافية وبيولوجية
النخلة موغلة في القدم، إذ بدأت رحلتها الطبيعية منذ 80 مليون عاماً «العصر الطباشيري»، وتأقلمت مع المتغيرات البيئية الصعبة فصمدت حتى يومنا هذا بفضل خصائص وراثية كقدرتها على مقاومة ملوحة الأراضي وارتفاع الحرارة، وخصائص فيزيولوجية مهمة من مجموع جذريّ ضخمٍ يصل إلى أكثر من مترين طولاً ويمتد على الجوانب عدِّة أمتار، وأوراقها الريشية التي تُعرف بالجريد «السعف» تغطى بطبقة شمعيّة تقيها الغبار والحر، وفي النخل أناث وذكور كالبشر تماماً يقفون كأسر نووية أو ممتدة يترافقون في رحلة الحياة الأبدية، ويتوالدون كالبشر من رحم نخلة، طفلاً أو فسيلة صغيرة يمكن وضعها في مكان آخر لتنبت نخلة أخرى فتية، شقيقا أو شقيقة في مستعمرة النخل.
وثمر النخل ذو قيمة غذائية عالية ويُمكن عدَّه غذاء كاملا، إذ يحتوي على البروتينات والفيتامينات والسكريات وأملاح البوتاسيوم، وهو غذاء يمكن تخزينه بسهولة، وينتج النخيل ثماره في منتصف الصيف وبعض أنواع النخيل قد ينضج ثماره أو قد يؤخر وذلك مرتبط بصنف النخلة ومكان تواجدها، وفضلا عن الثمر يمكن الإفادة من أليافها في صنع الحبال، وموادها حشوة للأثاث، ومن سعفها الزنابيل والقفف والقبعات الشمسية، ومن جريدها تصنع السلال وأوعية نقل الفواكه والخضراوات والأثاث الخفيف مثل الكراسي والأسِرة، ومن نوى التمر تستخرج الزيوت، وتستعمل البواقي كعلف للحيوانات، وجذع النخلة المقطوعة يستعمل لتسقيف البيوت والمنازل، فضلا عن استعمالات
أخرى.
النخلة.. شجرة الجنة السومرية
لقد اهتم السومريون بـ«النخلة» وزراعتها وتكثيرها من خلال طرق التكثير، لا سيما عن طريق الفسائل الصغيرة التي تنمو متصلة بالنخلة الأم، وتتخذ من آباط السعف رحماً، ويمكن فصلها في عامها الثالث ومن ثمّ تُغرس في مكان آخر، وعُرفت في العالم القديم بـ «الشجرة الطيبة» و«شجرة الحياة»، و«شجرة العذراء»، وعكست صفاتها المتعددة التقاء الشعوب والأديان، وهي عندهم شجرة الحياة والمعرفة، والاعتقاد السائد حولها بأن من يأكل ثمارها يصبح حكيماً ومبصراً، وهي تمثل شجرة الشفاء من الأمراض، وترمز إلى الخصب لهذا السبب هي علامة «ديموزي» إله الخصب، وهي شجرة الجنة السومرية التي كانت منتشرة في دلمون، وسماها السومريون «جشمار» واطلق عليها البابليون «جمارو»، وما زال العراقيون يسمون لب النخيل بالجمار، وصنف السومريون النخلة إلى سبعين صنفاً، وكانوا يعنون بالنخل كعنايتهم بملوكهم، وتم تخليدها من خلال الرقم الطينية، ونقشوها في قصورهم وجدرانهم، وبكل ما يمكن النحت عليه من خشب ومدر، وزيّن النخيل معابد بابلَ ومصر القديمة بنقوشات كثيرة كما عرفها الآشوريون والسومريون باستعمالات طبية جمة، ونقلت هذه الشجرة في العصور الوسطى لبعض دول أوروبا كإسبانيا وإيطاليا وفرنسا عبر عرب الأندلس، كما زرعت واحات في صحراء كاليفورنيا بأصناف نخيل متنوعة ومختلفة.
وبعد هذه الرحلة الطويلة لنخلة الثقافة أو الحضارة العراقية، والتي تثبت أصل الحضارة وقدمها وأسرارها وسر وجودها، بل وتفرعها إلى جميع أنحاء العالم، إذ يعترف أكثر مؤرخي العالم بأن الحضارة السومرية هي أقدم حضارة في التاريخ ومنها انطلقت حضارات وثقافات متفرعة منها، والعناصر الثقافية المشتركة بينها وبين الحضارات الأخرى أثبات آخر لهذه الحضارة الأولى في العالم.