المربّعُ الأوّلُ

ثقافة 2021/07/07
...

 محمد صابر عبيد
يتردد هذا المصطلح: «المربع الأول» كثيراً على ألسنة سياسيين ومثقفين ومشتغلين آخرين في حقول علوم إنسانيّة مختلفة، وغالباً ما يسبق بكلماتٍ تشير إلى أن هذا المربع هو مرجعٌ وأصل ونقطة انطلاق ومثابة حركة وخط شروع وما إلى ذلك، ليقال في الأغلب الأعمّ «العودة إلى المربع الأول» ضمن سياق نقد الظاهرة المراد وصفها، لأنها قطعت شوطاً زمنياً في طريق سيرها لتحقيق مقاصد معيّنة لكنها أخفقت وعادت صفر اليدين إلى المربع الأول، من غير أن تضيف شيئاً جديداً في هذه المسيرة وقد أكلت من جرف الزمن بلا قيمة واضحة، والعبارة هنا هي نوع من الرثاء الذي يضع هذه التجربة في موضع لا تحسد عليه حين قامت بإهدار هذه الفرصة من دون فائدة تذكر.
 
لا بدّ لكّل مسيرة أو تجربة أو فعل أو فكرة أو حلم من «مربّع أوّل» تنطلق منه الشرارة الأولى في أفق العمل، وبما أنّ المربّع هو مساحة معلومة يحرسه أربعة أضلاع فلا بدّ أن الانطلاق من منصّة المربّع ستكون نحو الأعلى، على شكل شعاعٍ ينبثق من خطّة المسيرة، أو روح التجربة، أو ديناميا الفعل، أو جوهر الفكرة، أو فضاء الحلم، لتبقى نقطة الضوء أثراً يحيل على العزيمة والإصرار والقوّة التي تسلّحتْ بها هذه المعاني كلّها لبلوغ الأهداف في نهاية المطاف.
ما قصّة هذا المربّع الأوّل يا تُرى؟ ولماذا هو في منظور الهندسة الرياضيّة مربّع وليس مثلّثاً أو مستطيلاً أو دائرة أو مكعّباً أو غيرها؟ إذ طالما أنّ المقصود منه الإشارة إلى العودة نحو مرجع مكانيّ محدّد فلا بدّ أن يكون ذا معالم رياضيّة واضحة، واختيار المربّع على بقية الأشكال الهندسية يمكن تفسيره بأنّ المربع شكل هندسيّ متساوي الأضلاع، وقد يكون هذا التعادل الرياضيّ لأضلاع المربّع يجعل المساحة المُشار إليها أكثر وضوحاً وتقبّلاً لمجال الرؤية، لذا تمّ تفضيله على بقية الأشكال الهندسيّة الأخرى التي لا تحظى بهذه الميزة الأنموذجيّة فاتّجهَ من خَوّلَ لنفسه الاختيار إلى المربّع، ولا شكّ في أنّ صفة «الأوّل» تشير إلى نقطة انطلاق التجربة التي يمكن القياس عليها بوصفها لحظة البدء.
توصف نقطة الانطلاق أيضاً بأنّها «نقطة الصفر» التي ما أن تبدأ الحركة الأولى بعدها حتّى تكون هي الحدّ الفاصل بين الصفر والأرقام التي تتوالى بعدها صعوداً، وفي هذا المكان حصراً يتمّ إنشاء المربّع الأوّل ليكون معياراً لمدى التقدّم الذي سيحصل في المسيرة بعد انطلاقها، ولا أحد بطبيعة الحال يرغب في العودة إلى المربّع الأوّل سوى الخاسر الذي لا يجد من يستقبله ليرتدّ كسيراً نحو المربّع الأوّل. 
وقد رضا من الغنيمة بالإياب كما يقول امرؤ القيس في عجزِ بيتٍ شعريٍّ له، بل يحاول كلّ مغامر يشرع بالانطلاق من نقطة الصفر أن لا يعود إلى المربّع الأوّل نهائياً، بل يجتهد ما وسعه ذلك نحو بلوغ مربّعات أعلى في سلّم الأرقام وصولاً إلى تحقيق الهدف المنشود في هذه التجربة، لكنّ لا أحد في هذا المضمار أتى على ذكر المربّع الثاني أو الثالث أو العاشر أبداً، وكأنّ مغادرة المربّع الأوّل من غير عودة محتمَلَة إليه لا تحتاج أن تأتي على ذكر مربّعات أُخر، إذ هو مجرّد عتبة أولى تسمح بالانطلاق في اتجاهٍ مُعيّن من الاتجاهات المتاحة يتناسب مع قدرات صاحب التجربة وعزيمته وطموحاته.
يبقى المربّع الأوّل هو المصطلح الرائج للتعبير عن هويّته الخاطفة إذ الكلّ مدعوّ لمغادرته نحو الأمام لأجل مقصدٍ أرقى ومستقبلٍ أفضل، ولا أحد يفكّر بالعودة إليه حين يشرع بخوض التجربة والانطلاق إلى أفق جديد يتعدّى حدود هذا المربّع ويبتعد عنه، قد يلتفتْ إليه من غادره كي يعرف أين وصل في خضمّ مسيرته، فكلّما ابتعد عنه مسافة أكبر شَعرَ بقربِ وصوله إلى الهدف المنشود، ليبقى «المربّع الأوّل» مكاناً في منطقة الوراء بوصفه ذاكرة مكانيّة وزمانيّة للتجربة لا تصحّ العودة إليها إلا في سياق شرح رحلة النجاح، أمّا القول بالعودة إلى المربّع الأوّل فهو كناية عن أقصى درجات الإخفاق في الوصول والبدء في رحلة أخرى من جديد، بكلّ ما ينطوي عليه ذلك من خسائر وفقدانات وانكسارات لا يمكن تعويضها لأنّ الزمن لا يعفي ولا يرحم ولا يعود إلى الوراء
مطلقاً.
يمكننا أنْ نعاين الحياة على هذا الأساس بوصفها مجموعة مربّعات تبدأ بالمربّع الأوّل، ومن ثمّ تنتقل إلى المربع الثاني فالثالث فالرابع وهكذا إلى ما لا نهاية، ولا عودة إلى المربّع الأوّل طالما أنّنا نستطيع تجاوز مربّعات الحياة مربعاً إثر مربّع بلا توقّف، وثمّة من يتوقّف عند أحد المربّعات ويقنع بما حصل عليه ويمكث هناك طوال حياته؛ لأنّ إمكاناته لا تسمح له بالانتقال نحو مربّع لاحق، هنا تنتهي مسيرته وتُختتَم تجربته ويعفي نفسه عندها من النظر إلى الأفق المفتوح مكتفياً بالحال الذي آلَ إليه، وهكذا يُنظَر إلى كلّ إنسان قياساً برقم المربّع الذي يقف فيه ويُعامَلُ على هذا الأساس، ولا أحد يعاين المربّع الأوّل إلا أولئك الذين انكسرت أدواتهم وتحطّمت معنوياتهم وتراجعت أفكارهم وعادوا إلى نقطة الصفر
خاسرين.