في رواية الحمامة لزوسكيند.. الآخرون هم الجحيم

ثقافة 2021/07/07
...

     هدية حسين 
لا يولد الإنسان بصفات محددة، الصفات تُكتسب بفعل التجربة الحياتية، هذا إنسان تصقله التجارب وتقويه، وذاك لا قدرة له على الصبر والتحمل، خصوصاً إذا ما تراكمت عليه النكبات منذ طفولته ولازمته لسنوات طويلة من دون أن يجد من يقف الى جانبه ويدعمه، وهكذا وجد جوناثان (بطل رواية الحمامة) للألماني باتريك زوسكيند نفسه وحيداً في هذه الحياة بعد أن خذله الآخرون.
 
عاد وهو صغير الى البيت فلم يجد أمه، قال له أبوه بأنها اضطرت للسفر وستبقى لفترة طويلة، بينما سمع من الآخرين بأن أمه قد رُحّلت باتجاه الشرق حيث لا أحد يعود، بعد أيام اختفى أبوه ولم يبق له سوى أخته الصغيرة فوجد نفسه في قطار يتجه جنوباً حيث استقبلهما عمه الذي لم يسبق أن تعرفا عليه قبل ذلك، كانت الحرب مشتعلة وقتذاك فخبأهما العم في مزرعته، كبرا هناك حتى تطوع جوناثان في الجيش، وعندما عاد بعد ما يقارب السنوات الأربع كانت أخته قد اختفت، وقيل بأنها هاجرت الى كندا، كان شاباً هادئاً برغم ما مر به، حتى أنه لم يعترض عندما هيأ له عمه فتاة للزواج منها، وبعد أن أنجبت ابنه البكر هربت مع عشيق لها.
كان هذا الهروب بداية ابتعاده عن الناس لعدم ثقته بهم، ولكي يبتعد تماماً قام باسترداد مدخراته من البنك وسافر الى باريس، وهناك عمل حارساً في أحد البنوك بعد أن استأجر غرفة في أحد المباني، كان يظن بأنه سيعيش العمر كله في هذه الغرفة، وشعر بالرضا والسعادة، وقرر أن يكون بعيداً عن العلاقات مع الجيران، حتى انقلبت حياته في ما بعد بشكل لم يتوقعه عندما خرج ذات صباح وشاهد حمامة عند باب غرفته فأثارت فيه الرعب الى الحد الذي عاد الى غرفته وحبس نفسه فيها وهو يرتعش من الخوف، وبقي منتظراً حتى تطير الى مكان آخر.
يعمل باتريك زوسكيند في روايته هذه على إقناعنا بأن مجرد حمامة ستغير حياة إنسان على شاكلة جوناثان، الذي لا يجد نفسه إلا بوحدته وابتعاده عن الآخرين بسبب اضطراب في شخصيته نتيجة ما مر به في ماضيه، ويشتغل المؤلف على هذه الاضطرابات ويعمّقها بكثير من المونولوجات الداخلية، إذ لا أحد يتحدث مع جوناثان إلا نفسه ومخاوفه من العالم الذي يحيط به، وتأويلاته التي تلازمه لكل حركة يقوم بها شخص قريب منه، إنه، أي جوناثان، عالم متفرد لكائن نسي طعم الحياة والعلاقات بكل أشكالها، يقف متخشباً أمام بوابة البنك لساعات يرقب الداخلين والخارجين، لئلا يكون بينهم أحد اللصوص، يُنهي عمله ويعود الى غرفته، لقد خرج من سياق الحياة الاجتماعية تماماً، ولم يختل نظام حياته إلا بعد أن حطت تلك الحمامة قرب باب غرفته.
لقد رأى في هذه الحمامة ما يهدد حياته، إنه خوف غير عقلاني بمنطق علم النفس، والخوف غير العقلاني هو الرهاب، والرهاب هو (عصاب المخاوف أو الفوبيا، وهو مرض نفسي يعرف بأنه خوف متواصل من مواقف معينة..)، ومن بين تلك المخاوف الخوف من الحيوانات، أو من حيوان بعينه، فما هي الأسباب التي جعلت جوناثان يخاف من حمامة؟، لم يخبرنا باتريك زوسكيند صاحب رواية «العطر» الشهيرة شيئاً عن تلك الأسباب، ويمكن للقارئ أن يتفهم خوف جوناثان من الناس وعدم ثقته بهم، وبُرجِع السبب الى الحياة التي عاشها، الفقدانات التي حدثت له، أمه، أبوه، أخته، زوجته، أما خوفه من حيوان أليف فهو سبب غير مباشر في حالة خوف جوناثان من الحمامة، فقد أخبرتنا الرواية منذ بدايتها بأن جوناثان عاش في مزرعة عمه منذ صغره وكبر فيها، وبالتأكيد كان قد رأى أسراباً عديدة من الحمامات في المزرعة، لذلك يبدو الأمر مستغرباً أن تبلغ المخاوف بجوناثان حد أن يترك غرفته التي رأى فيها سعادته ويهرب ليستأجر غرفة في مكان آخر لفترة طويلة فلعله يعود الى غرفته الأولى ذات يوم وتكون الحمامة قد وجدت لها مكاناً آخر.
ولأن حياة جوناثان مرتبكة وفي كل يوم يحدث له أمر يخلخلها، فقد أوصلته تلك الحياة الى مواقف صعبة ومضحكة في آن، عندما تعرض لشق في بنطلونه أفقده التوازن وقت عمله، وحاول بكل طريقة أن يجد حلاً ولكن من دون جدوى، وإذا كانت حياته قبل هذا الشق مرتبكة فقد أصبحت أكثر ارتباكاً، وهناك الكثير من المواقف التي مر بها وعجز عن إيجاد البدائل لتغييرها، كيف يمكن لمريض بهذه الدرجة القصوى من الرهاب أن يعيد التوازن لحياته؟ تواصلت مآزقه حتى في سكنه الجديد وكبرت هواجسه وتضخمت تأويلاته فأوصلته الى الوسواس القهري في كل شيء، فملأ الحقد قلبه وتمنى أن يطلق النار على كل شيء أمامه، المقهى والبنايات وحشود السيارات ليتحول العالم الى خرائب، ما الذي بقي لهذا الكائن الذي يدعى جوناثان، المسجون داخل جسده؟.
في تلك الليلة التي عاد فيها وتسرب حقده شيئاً فشيئاً حدثت عاصفة مطرية عاتية، كان نائماً واستيقظ على صوت دوي أفقده قواه وأثار رعبه، وحيد مع أشد حالات مخاوفه، كم تمنى في هذه اللحظة بالذات أن يكون بين الناس، ووجد نفسه في الصباح يحمل حقيبة ويتجه الى شارع دولابلانش حيث البناية التي تقع فيها غرفته الأولى، تسللت إليه روائح القهوة وأصوات الجيران، لقد اكتشف وإنْ في وقت متأخر أنه لا يمكن العيش من دون الآخرين، فالآخرون ليسوا هم الجحيم
دائماً.