التضاد في قصيدة أجراس الليل للشاعر خلف الحديثي

ثقافة 2021/07/10
...

  أشواق النعيمي 
 
تستنفر القصيدة طاقة التضاد لصياغة علاقات تقابلية تنشأ داخل حدود اللفظ الواحد، فينشطر المعنى إلى ضدين متجاورين.
تعمل المفارقة الضدية في قصيدة «أجراس الليل» على خلخلة البنية الشعرية لتحاكي رؤية الشاعر تجاه الواقع الاجتماعي والسياسي ورصد معاناته وآرائه الإيجابية والسلبية تجاه الآخر. 
(في غَيمتيْنِ يُواري ظلّهُ الظلُّ/ وظلّ ذاتِكَ ظلّ ملّهُ القتلُ).
الظل في مطلع القصيدة تجسيد فعلي لثنائية السكون والحركة يحمل في جلباب عتمته نوايا الخير والشر، يجمع في الشطر الأول بين الصفة والموصوف والمعنى الذي يخجل من ذاته فيحاول التنصل منه بالتواري والاختباء والتلاشي داخل بياض الغيم.
إلا ظل ذات المخاطبة في الشطر الثاني، فهو ظل معاندا متمسكا بصفة العتمة مصرا عليها عصيا على الانصياع ولم تعد تنفع محاولات تطويعه. 
(لأنّهُ وحدَهُ المعنيُّ في قلقي/ أجراسُ ليلِكَ وَقْتٌ عافَهُ الليلُ).
تتجلى في الليل المفردة الثانية من عنوان القصيدة ثنائية «الهدوء، وضجيج الأجراس» فالليل الوقت الذي يحمل سكون الحياة وخمود حركتها، يتبرأ من الليل حين يكون مصدر ضجيج ووقت قلق لذات الشاعر.
تتشظى من الليل ـ الحقل الدلالي الأوسع في النص ـ العديد من المفردات المنشطرة على ذاتها والتي وظفت بوصفها أنساقا متحركة لعلاقات التضاد التي تموج بها القصيدة.
(وكلّما عدْتُ مِنْ مَنفى الخُطى تَعباً/ تَعْيا خُطاي وفيها يَأنسُ الغِلُّ).
في المقطع التالي صورة ديناميكية نسجتها مخيلة الشاعر باشتقاق الفاعل من اسم المكان «منفى الخطى»، كلما راودته أطياف ما مضى تركته مأزوما تتصارعه مشاعر هي مزيج من الشفقة على ذاته والغل على الذات المخاطبة. 
تمكن الشاعر من خلق تضاد صوري نتج عن التحول من التشيؤ إلى الأنسنة في المفردة ذاتها «الخطى» بإسناد 
دور المسبب والمتأثر الذي أعياه الأسى وانتعشت فيه 
مشاعر الغل والغضب: (يدي أضاعَتْ يدي مأوى تَشرّدِها/ وأنْتَ نَفسي التي مِنها بدا العَدْلُ).
اليد تشبيه بليغ لذات الشاعر التي أخفقت في إمساك الطرف الآخر والحيلولة دون فقدانه، على الرغم من وصف المفقود بمأوى التشرد للدلالة على حالة اللا استقرار التي يعيشها العاشق.
في ثنائية «أنا، هو» يتقابل التضاد ويتقاطع مع بوح الشاعر واعترافه للذات المخاطبة، مؤكدا في الشطر الثاني على يقين العاطفة الذي تؤمن به نفسه وتتكئ عليه، وقوة الترابط الذي لا يمكن الإفلات منه، فكيف تضيع النفس من نفسها. 
يروم الشاعر من وراء هذا الالتفاف رسم صورة ذهنية لعلاقته المتذبذبة بين معاني الوصل والصد والثبات.
(سيَعلمونَ غداً إنّي إلى غدِهمْ/ ربٌّ ويرفسُهم في جُبِّهِ
السّيْلُ).
يعلو في بعض أبيات القصيدة صوت الشاعر بالوعيد المحدد زمنيا «المستقبل» للجمع الغائب. 
قد لا يكون التحول بين الضمائر دلالة على تعدد الأطراف المخاطبة بقدر ما هو تبطين للمغزى الحقيقي واستعمال انزياحي لضمائر الجمع بدل الضمير المخاطب. 
بنبرة استعلائية يكرر الشاعر مفردة غدا بوصفها ظرف زمان مرة واسما مجرورا يتعلق بدلالة تحقيق الوعد مرة ثانية، وعد وإن طال مداه فهو لا ريب قادم بفعل «الرفس» دلالة على قسوة الإبعاد المشفوع بالذل والتي شبهها بالسيل المندفع نحو أعماق الأرض.
يلجأ إلى إثراء قصيدته بالتنوع الحيوي في توظيف الضمائر والإيهام بمخاطبة الجمع العام لإيجاد توازن ضدي بين الأنا العاشقة المهادنة والأنا الراسخة على ثوابتها تلك الأنا التي لم تتذوق طعم الذل أبدا. 
(غدا سأتلو قوانيني مُعدّلةً/ في لَحظتيْنِ فيُخفي ظلّهُ الظلُّ).
يختم الشاعر قصيدته بأسلوب البناء الدائري، وهو البناء الذي يتوافق فيه مطلع القصيدة مع ختامها بالفكرة أو المعنى موظفا المفردات ذاتها أو ما يقاربها.
تبدأ القصيدة بفعل التواري وتختم بفعل الإخفاء المرادف للفعل الأول والفاعل والمفعول ذاته. 
الإخفاء في المطلع مكاني في «غيمتين» وفي الخاتمة زمني تسبقه «لحظتين» والتثنية نسبة إلى ازدواجية الذات.
نلاحظ إن الإخفاء في المطلع اختفاء قسري يائس مشتت وأقل حظا في العودة والتجلي، على العكس من الإخفاء الختامي الذي جاء نتيجة حتمية لاستباق زمني تمثل برغبة الشاعر المؤجلة بالتغيير والتحرر من سجنه الذاتي.