الطقوس الدينية عند الأيزيديَّة
آراء
2021/07/10
+A
-A
زهير كاظم عبود
تعرف الطقوس الدينية عموما بأنها طريقة العبادات والاحتفالات الدينية وشعائرها، وما يعرف بنظام الترتيب الديني للشعائر، وهي غالبا ما تكون اما حركات فعلية او قراءة في الصلوات والأدعية المنصوص عليها ضمن المقدس من الطقس، ويمكن أن تكون تلك الطقوس تعبيرا نفسيا لحالة التقارب الروحي بين البشر وبين الاله أو المعبود، وعرفتها الموسوعة الحرة بأنها: «الطقوس «ritual» مجموعة من الإجراءات التي يؤديها بعض الأشخاص والتي تقام أساسا لقيمتها الرمزية. وقد يحدد تلك الطقوس أو المراسم تراث الجماعة المشتركة، بما في ذلك المجتمعات الدينية. ويشير المصطلح عامة إلى مجموعة الأفعال الثابتة والمرتبة، ويستثنى من ذلك الأفعال التي يقوم بها المؤدون للطقوس اعتباطا».
ظهرت الطقوس الدينية عند البشر مع بدايات الايمان والعقيدة مهما كان شكلها او نوعها، فبدأت ظاهرة الطقوس الدينية مصحوبة بالخوف والخشية من الظواهر الطبيعية التي يعيشها الانسان، وأضفى على هذه الطقوس شيئا من القداسة والرهبة والإلزام، وتفرض كل ديانة نوعا من الطقوس التي فرضتها طريقة العبادة، وقررها رجال الدين المختصون حتى صارت عرفا من اعراف تلك الديانة وجزءا مهما من ممارساتها الشعائرية والدينية، يمارسها الأفراد طوعا باعتبارها جزءا مكمل للعبادة، وذات تأثير نفسي كنوع من انواع التقرب الى الخالق أوالإله الملاك المعبود، ولكل ديانة سمة من السمات الأساسية التي تتناسب مع مفهوم العبادة وطريقة الطقس المقدس، التي يؤديها الافراد أما بحضور رجل الدين او ضمن المكان المقدس أو في حال ممارسة الطقس من قبل الانسان لوحده أو في بيته او ضمن أسرته، ولهذا نجد العديد من المشتركات والمتشابهات في الطقوس بين الديانات القديمة.
ويفترض بالطقس الديني أن يؤديه الانسان كتعبير عن استمرار التزامه الديني التقليدي، ويعبر ايضا عن طريقة التوسط بين العابد والمعبود، كما يفترضه الدين وتنص عليه التعاليم العرفية الاجتماعية والدينية، وغالبا ما تكون الطقوس غير مكتوبة في النصوص المقدسة ولا في السبقات الدينية، ولكنها أمليت على المجتمع الذي سار عليها وصيرها عرفا مقدسا لا يمكن تجاوزه أو تغييره، ويتم تقليد الممارسات الطقسية من جيل الى جيل دون مناقشة أو اختلاف، وربما يتم حدوث تغيير طفيف فيها، إلا ان الغالب على جميع الطقوس انها أما أن تكون حركات يؤديها الإنسان امام الاله، او انها تكون حركات تؤديها الجماعة لمرضاة الاله، او انها افعال تدل على الخير والكرم والجود أو التوسل والطلب من القوة الخارقة تحقيق حاجات أو امنيات كطلب انزال المطر او شفاء المرضى او استجلاب الرزق او حل المشكلات الشخصية، وفي كل الاحوال فإن التزام الإنسان بممارسة هذه الطقوس يجعله في مصاف الملتزمين دينيا، وحين يمارس الطقس الديني فإنه يشعر بحالة نفسية وتوازن غير مرئي بالحضور امام المقدس من الدين.
وعرفت الديانة الايزيدية كغيرها من الديانات بطقوس رمزية يمارسها الايزيدي تقربا الى الله، او ما تفرضه المناسبة والحدث حين تمارسها الجماعة بوصفها تمثل الرمزية والاعتقاد والعرف، وتنعكس تلك الرمزية في تلك الممارسات الدينية، التي ينسجم بها المجتمع تعبيرا عن الالتزام الديني خلال المناسبة الدينية، وتبرز تلك الرمزية في عدم استفادة الاله او المنذور له من تلك النذور او الطقوس الدينية التي يؤديها المؤمن، إلا انها تمثل الايفاء بالالتزام نفسيا ودينيا، ولعل ما يثير الانتباه عدم اقتصار طقوس الديانة الأيزيدية على الحركات فقط، انما هناك تركيز على الموسيقى والترانيم الصوتية، وتلك الظاهرة تعد من جذور ظواهر الديانات القديمة، فالعزف على الزرناية أو المزمار والطبل ومصاحبة الموسيقى التعبيرية لطقس انتقال رمز طاؤوس ملك ومصاحبة تشييع المتوفى وعملية الدفن، وتتخصص طبقة دينية من طبقات الايزيدية بترتيل تلك الاناشيد والسبقات الدينية وممارسة بعض الرقصات الدينية في باحة المرقد المقدس كما في رقصة السما، او الاحتفال بقدوم السنة الايزيدية الشمسية الجديدة التي تكون مع قدوم الربيع، في اول يوم اربعاء من شهر نيسان «سر صالي» وهو عيد الخليقة بتقديم البيض الملون وتعليق الازهار على ابواب البيوت، جميعها امور تلفت الانتباه وتثير الاهتمام في تفرد الديانة الايزيدية بتلك الظواهر، التي تفردت بها وتميزت عن باقي الديانات التي تلتها، ولعلنا نلمس تلك البساطة في الطقوس والتي كانت تعتمدها الديانات القديمة.
ومن يتابع هذه الأعياد يجد أن جذورها ممتدة منذ العهد البابلي في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، واستمر المجتمع الأيزيدي متمسكا بالاحتفال بها في شهر نيسان وهو الشهر المقدس عند الأيزيديين كما كان عند البابليين .
يتجه الأيزيدي في صلاته نحو الشرق لكون شروق الشمس مقدسة، وهي جزء من النور الالهي يبدأ من الشرق، حيث يمنح يوما جديدا وحياة مضيئة للبشر، وهي إضافة لذلك تمنح الحيوانات والمزروعات حياة جديدة وتمدها بالقوة.
كما التزمت الديانة الايزيدية بالطهارة ليس فقط في اللباس الابيض الذي يرتديه رجل الدين، انما باحتلال الطهارة الجسمية والنفسية مكانا كبيرا في مساحة الطقس، ومن هنا جاء طقس التعميد الذي يتوجب على الايزيدي أن يمارسه بعد الولادة في نبع ماء طاهر وصاف هو ماء عين «كاني سبي»، التي يطلق عليها زمزم، كما يتوجب على زائر المكان المقدس أن يكون طاهرا ومتخلصا من كل المنجسات الجسدية والمادية، فلالش مكان مقدس بكل مساحة تراب المكان، ولا يقتصر التقديس لقبور الاولياء ولا للاماكن التي يحتويها بل يمتد لكل الوادي، إضافة الى أن للبراة مكانة متميزة في المجتمع الايزيدي، كما ان لنظام الطبقات ولرجل الدين مكانة تكاد تصل الى درجة التقديس، ولذلك فان زيارة قبور الاولياء وتخصيص طوافات لكل منهم يعد طقسا دينيا - اجتماعيا يمارسه الناس ضمن منطقتهم، مثلما يمارس الأيزيدي الطواف بالمكان المقدس كحج سنوي ضمن فترة معينة، وكذلك ذبح الثور وتوزيع الطعام والنذور التي تلزم اصحابها تحقيقا لالتزامهم .
قسم من هذه الطقوس ما يحددها ويقيدها المكان، والقسم الآخر يحددها الحدث والواقعة ولا تتقيد بالمكان، فالطقوس التي تمارس في فضاء لالش المقدس لا يمكن ان تنتقل الى مكان آخر، كالحج والتعميد وأداء رقصة السما، بينما تمارس طقوس الولادة والوفاة او النذور او الصلاة في مكان سكن الايزيدي، كما أن قسما كبيرا من هذه الطقوس تتم ممارستها جمعيا، وقسم آخر منها ما يمارسه الفرد الأيزيدي لوحده أو ضمن عائلته، إلا ان الممارسة الطقسية الجمعية تعطي نوعا من المهابة والألفة والمحبة وتشعر المجتمع بالتكاتف والترابط مع الدين.
ويلتزم المجتمع الأيزيدي بممارسة الطقوس التي انتقلت اليه من السلف، وتعد هذه الطقوس وسيلة من وسائل الترابط الاجتماعي والعشائري، إضافة الى مكانتها القدسية وما يضفيه عليها الدين من هالة، ويمكن أن نقول إن قوة هذه الطقوس تجعل من الصعب على الجيل الجديد من ابناء الأيزيدية تركها او محاولة تجديدها، حيث تصطدم بجدار من المقدسات والأعراف والخطوط، التي لا يمكن تجاوزها او التعدي
عليها .
وانسجاما مع الديانات القديمة حرصت الديانة الأيزيدية على ممارسة طقس الختان، الذي تعده الديانة من الفروض الملزمة على الانسان الايزيدي، فلا يمكن لغير المختون الزواج ولا يقوم بذبح الحيوانات بنفسه ولا القيام بدفن الميت، ومن الجدير بالذكر أن الديانات اللاحقة كاليهودية وقسما من الفرق المسيحية والإسلام اخذت بالختان. واستثمرت الايزيدية طقس الختان لتربطه بطقس المكارفة، حيث يمكن للأيزيدي من ختن اولاده بحضن أحد من الأيزيديين او من المسلمين ليصير له كريفا، وهذه المنزلة تجعله بمثابة الأخ او أحد افراد العائلة وفقا لطقس غاية في البساطة التزم بها المجتمع الايزيدي، فصيرها تقاليد ثابتة وحرص على ديمومتها وثباتها.
ومن الجدير بالذكر أن اللغة التي تتم بها ممارسة الطقوس والمراسيم الدينية هي اللغة الكردية، وهي التي ينشد بها القوال ترانيمه الدينية في احزانهم وأفراحهم ومناسباتهم الاجتماعية.
وتعد الطقوس الدينية التي تمارسها الايزيدية من ضمن النظام الديني بتفاصيله، وليس هناك طقس يؤديه الايزيدي للأمير او تقربا لرجال الدين انما كل الطقوس تؤدى تقربا الى الله والى الاولياء الايزيدية، بوصفهم شخصيات دينية مؤثرة وتعتقد العامة بقدرتهم على التوسط بين الناس والإله، وهذا التقديس يفرضه المجتمع والمدينة، ولا توجد نصوص ملزمة في السبقات الدينية او الكتب المقدسة تؤكد ذلك، مما يؤكد حاجة المجتمع الايزيدي الى صيغة من صيغ الترابط الروحي والانشداد بين الانسان وبين الله، لعدم وجود وسيط او رسول او نبي، بدليل ان الشيخ عدي بن مسافر مع حجم تقديسه وتبجيله فهو مجدد للديانة الايزيدية، استطاع التأثير في المجتمع وتمكن من خلق منظومة دينية متجددة لم تخرج من أسس وقواعد الديانة الايزيدية التي تحكمها أحكام ضوابط الطبقات الدينية الصارمة، وتمكن من تطويع المجتمع وإرشاده نحو التناسب الممكن في زمنه، كما أن العديد من الطقوس الدينية ما تفرضه الطبقة الدينية المهيمنة على المجتمع وتتقبل به الناس، ويصبح بالتدريج عرفا وتقليدا دينيا على مر الايام.
والنفس البشرية تواقة الى الانشداد روحيا ونفسيا نحو القوة الخارقة العليا التي يمثلها الاله، ولهذا يلجأ الناس الى اداء الطقوس الدينية ايمانا منهم بأنها طريق من طرق التواصل مع الله، واعتقادا منهم بأن تركها او مخالفتها تعكس الرهبة والخوف والتردد والندم، وبالتالي فإن الايفاء بها وممارستها تجنب ذلك، كما ان التزام الاجيال بالتوالي على ممارسات طقوس دينية معينة، يجعل من تلك الطقوس مسلمات تتحول الى جزء من النظام الديني المقدس، وهي ليست بالضرورة تدلل على الاعتقاد بوجود الخالق او طاؤوس ملك او الاولياء الصالحين، بالنظر لكون الممارسة غير ملزمة إلا معنويا، كما انها لا تحرم الانسان من ديانته، وهي اسوة بالطقوس التي تمارسها الديانات الاخرى، دليل على علاقة الانسان بالظاهرة الدينية ودليل على ايمان الانسان بظواهر خارقة او غير ملموسة، يحاول ايجاد صلة مادية بها مهما كان شكلها او طريقة ادائها، وتأخذ شكل الممارسة الطقسية، حيث يشعر الانسان وهو يمارس الطقوس الدينية بسمو روحي ونفسي مع ايمان بتحقيق جزء من الوفاء عن الالزام الذي التزم
به.
وعلى عكس ما يجده البعض من أن الأيزيدية ديانة تمارس طقوسها الدينية بسرية مطبقة، فإنها بالحقيقة كانت تخشى من تدخل الغرباء ومن يريد بها سوء، وضرر فتحجب عنهم مشاهدة ممارسة بعض الطقوس، كما أن بعض النصوص الدينية اكدت ذلك بالخشية من أعداء الديانة الايزيدية، التي تعرضت لمجازر وحروب شنتها قوات وأنظمة وشخصيات، ضد معتنقيها العزل إلا من ايمانهم وعقيدتهم، فانتهت تلك المذابح والمجازر، وانتهت معها الشخصيات والأنظمة والجيوش والضحايا، في حين بقيت تلك الديانة قائمة يمارس طقوسها من يؤمن بها.
ويشارك المجتمع الايزيدي في الحرص على ممارسة تلك الطقوس، حتى انها اصبحت جزءا مهما من الممارسات الاجتماعية، ولم تطرأ عليها إلا تغييرات طفيفة، بحكم وجود الطبقات الدينية وسيطرة السلطة الدينية على مفاصل المجتمع لتعزيز مكانتها الاجتماعية، وحرصها على ابقاء المجتمع تابعا لها.
ونستطيع أن نقول إن تلك الطقوس الدينية، إضافة الى ما تمثله من انشداد للفرد الايزيدي وتعبيرا عن قوة التزاماته الدينية، فإنها ايضا توفر علاقة روحية وترابطا اجتماعيا يجعل العديد من هذه الطقوس أعرافا ملزمة، من الصعوبة بمكان أن يتم تجاوزها او خرقها وتفرض نفسها على المجتمع، غير أن تلك الطقوس التي حلت منذ زمن بعيد لا يتمكن أحد من تحديد فترة بدء ممارستها أو العمل والالتزام بها، كما لا يتمكن أحد من معرفة من قررها او الزم الناس
بها.
وتمارس أنواع من الطقوس البدائية التي تطورت عبر الزمن للتخلص من الأمراض أو لحل مشكلات شخصية او أسرية عند البسطاء، كما تقدم الكفارة عن عمل تم ارتكابه خلافا لتعليمات الدين، وحين تتحقق الأمنيات عبر تلك الطقوس تصبح عنوانا كبيرا يتمسك به المجتمع، خصوصا ضمن المجتمعات البسيطة والفقيرة والتي تعاني من الانعزال، كالأيزيدية نتيجة تعرضها لحملات الإبادة والقتل والاغتيال والغدر والظلم لزمن استمر حتى يومنا هذا، وفي حالة فشل تحقيق تلك الأمنيات ضمن تلك الطقوس يعزي هذا الفشل الى نقص الأيمان وعدم رضا الله على المخلوق .