ليلة الحلم الإيطالي ونبيل بغداد

ثقافة 2021/07/11
...

  موج يوسف
 
كتبتْ شارلوت ديبلو الكاتبة الفرنسية بأنها لا تستطيع أن تتخلى عن قصص الروائيين، فهم يسمحون لها بـ: (جعل اليسيرة التي تكوّن حياتي وأنهم يجعلونني أحلم وارتعد من القلق أو يجعلونني أيأس). العديد من القرّاء يعيش مع شخصيّات الرواية وهذا الذي جعلنا نلفت النظر إلى العيش مع هذه الشخصيات. 
هل هو هروب من الحياة الواقعية أم فهمها عبر أفكار الشخصية الخيالية؟ قبل عدة أيام ناقشنا في أصبوحات بيت المدى رواية بعنوان (ليلة الحلم الإيطالي) للروائي د. ماهر مجيد والصادرة عن دار سامراء وكشفنا عن بعض شخصيات هذه الرواية. ولكي ندخل في أعماق أفكار النصّ لا بد من التوسع بقراءة الحدث ومحركه، انطلاقا من المشهد الأول الذي افتتحه الكاتب بممارسة حميّمية بين البطل وحبيبته، بسرد براويٍ ضمير المتكلم الأنا، وهذا المشهد هو محاولة لشد القارئ إلى مواصلة القراءة ومن الجانب الآخر هو بداية لتحطيم التابوهات التي هالت على المتلقي واستفزازه بأفكار أخرى، فحمل الفصل الأوّل عنوان (ثمة شعرة بين الدين والأسطورة)، ولأنَّ بغداد مؤخراً عاشت أو ما زالت تعيش حالة من الصراعات الدينية والطائفية، وسادَ الباطلُ بهذه المسميات فيدخلنا الروائي بمشهد الموت وهو انفجار وقع في بغداد، ويصاب به بطل الرواية نبيل، وهو شاب مثقف يعملُ نحّاتاً في المتحف، ويسكنُ في منطقة الكسرة التي تتوسط العاصمة العراقية، وهي منطلق لمسرح الأحداث الأخرى، وهذه المنطقة ذات الطبقة الفقيرة والمتوسطة ومعروفة بتنوعها البشري في الدين والقومية والطائفة، وتجاورها مناطق الوزيرية والأعظمية وشارع المغرب مناطق ذات طبقة اجتماعية عالية. نبيل ينجو من الانفجار فيعود إلى شقته ويستقبله أهل المنطقة ومنهم شخصيّة (أبو ادريس) رجلٌ مسّن يهودي الأصل وأسلم من أجل الزواج، بالتي يحبّها عند رغبة أهلها، والشعرة بين الدين والأسطورة تتوضح بوجهة نظر الشخصية فتتسلل أفكار الروائي عبرها، فيقول أبو إدريس عن موقفه من الدين: (إن الدين هو عمل، ولا أقصد بالعمل بطقوس العبادة، لا هذا كذب بل العمل على تحقيق الإنجاز، إسعاد نفسك والآخرين. 
ماذا تفيد طقوسي وأنا أعيش في حياة متخلفة ظالمة ولا قيمة فيها للإنسان) ص26. الجهلُ بالدين وإحياء طقوسه فقط لإثبات الهويّة زاد من عمق التخلّف في مجتمعاتنا وهذا ما زاد من حجم الهوة بين الإنسان وحياته، وعَمّقَ من حدّة الصراعات وصار الانتصار يُبنى على جماجمِ أصحاب الحقّ، حتى لم يعدّ للإنسان قانون يحكمه، والدينُ صار وسيلةً من أجل تحقيق مصالح خاصة إذن فما فائدته؟ مسرح الأحداث ما زالت تقرع خشباته بشخصيات الرواية، ونبيل بغداد الذي يحاول بثَّ الأمل في عتمات اليأس، فهو الذي كان يرفض الدخول في العلاقات العاطفية بعد فشله في الأولى، الآن تخطفُ قلبه فتاةً أخرى ويعيش بين صراعين الدين والحبّ، تربطه علاقة بفتاة شابة جميلة بغدادية تعمل معه في المتحف، وهي مسيحية اسمها انسجام وقد هاجرت أسرتها إلى أميركا بعد 2003 عندما ضاقت دروب العراق على المسيّح، لكنّها بقيت مع أبيها في بغداد، لأنَّ سحرَ هذه المدينة جعل أبناءها لا يرون جمالاً غيرها. وهنا يدخلنا الكاتب بلعبة سردية عبر شخصية انسجام ليبوح بسر المرأة التي تعيش بمجتمع تحكمه العادات، وتضّعف بصيرته نحو الكائن الأنثوي، ولما رأت تحرر فكر نبيل أحبّته وصرّحت بجوهر المرأة اثناء حوارها معه قائلة: (المرأة هي المرأة في الجينز، البكيني أو العباءة والحجاب لا فرق لا مميزات) ص67. 
المجتمع العقيم الفكر هو الذي يعيش على خدعة الشكل فتكون أحكامه ساذجة، وهذا ما جعله يحاكم المرأة على مظهرها، وذكوريته تفتخر بالغطاء الأسود، لأنَّه يستر هشاشته وضعفه. وما فائدة امرأة تلتحف بالكيس الأسود، وقطع قماش سميكة وجوهرها قد انمحى بريقه، وسُلبَ منها حقّها وجعلها لا تفكر ولا تناقش وتخشى النظرةَ الدوّنية لها. الفحولةُ تتجنبُ المرأةَ التي حررت فكرها، ووضعت المجتمع جانباً هامشياً وتصدرت على عرشه غير مبالية لقضية المظهر الخارجي. 
عمل الكاتب على إخفاء شخصية انسجام بشكل مؤقت، فرحلت إلى أميركا لتنتصر على الورم الخبيث وتعود في ما بعد، بهذا يدخل نبيل برحلة البحث عن الحقّ الذي سلبته شخصيّة حقي الملاكم السّاكن في الكسرة والذي يملك عصابة كبيرة في منطقة (الحواسم) بمقبرة الإنكليز، وهذه الشخصيّة مارستْ أعمالاً شيطانية، فكانت هي يدّ الشيطان المخلصة، فيشتد الحدّث عندما يُقتل رزوقي (الجايجي)، الذي يعمل بمقهى أبو أحمد بالكسرة وتربطه صداقة بنبيل، وهذا الأخير يركب سفنَ البحث عن القتلة، فيجدها بمذكرات رزوقي التي أعطاها له ذات يوم. 
ويكشف عن سبب القتل وهو عندما رأى رزوقي ذات يوم أن حقي وأصحابه قاموا بتعريّة فتاة شابة من أجل اغتصابها فقطع عنهم لذة العنف، ومن أجل كتمان السّر تمّ قتله. الحقُّ يتنفسُ عبر التضحيات فيُقتل أبو أحمد الذي شاركه نبيل سر قتل رزوقي، لكن بالمقابل تتم تصفية عصابة حقي من قبل الجهات المختصة. وعودةً إلى شخصية حقي فلها بعد ثقافي وهو: ألا نخدع بالمسميّات، وإن أردنا الحقيقة ل ابد من زرع الشّك لحصادها. ومع اختفاء انسجام يدخل نبيل بصداقة مع لقى فتاةٌ من أسرةٍ ارستقراطيةٍ تسكن الوزرية ذات أصّولٍ ملكيّة، كانت تعيش في إيطاليا وجاءت إلى بغداد والواقع صدمها فقررت الرحيل، لكن عبر هذه الشخصيّة يضع السّارد سؤاله السياسي عندما قالت (ربما لو كان النظام الملكي قد استمر لأصبحنا نحن العراقيين ذوي سلوك أكثر مدنيّة لأن المدينة من الاستقرار وليس من الثورات العبثية). وبهذا نسأل أيهما أصلح لحكم العراق الملكية أم الجمهورية؟ اقتربت ليلة الحلم الإيطالي عندما عرضت لقى على نبيل السفر معها لكنّه رفض، فتركت له هديّةً كبيرةً هي مقتنياتٌ أثريةٌ لأسرتها تحت تصرفه وتقدر بملبغ مليون دولار. فماذا على النحّات أن يتصرف بها؟ هذا ما نتركه للقرّاء.