رؤيا الشاعر

ثقافة 2021/07/11
...

حميد المختار 
 
«كل شيء ممكن على جميع الشعراء أن يعرفوا ذلك» هكذا كان يقول الروائي التشيلي (روبيرتو بولانيو) وله قول بالغ الأهمية هو «ولكن الآباء يجب قتلهم فالشاعر يولد يتيما» استحضرت هذه الكلمات حالما انتهيت من قراءة ديوانين للشاعر العراقي المبدع (فاضل حاتم)، هما
(أغاني إلى مقهى كوستا 
 وأوراق من ذاكرة جانبية).
وتخيلت نفسي تماما كما تخيل هذا الشاعر الجميل نفسه وهو يقف أمام نافذة في الليل في طابق أخير من بناية تناطح السحاب، حيث تكشف المدينة عن عريها وتخلع أردية الليل لتلبس أردية الأضواء الباهرة..
هناك الألوف من النوافذ المشرّعة بعضها مظلم والآخر مضاء بألوان لا حصر لها، في عمق كل ذلك يعيش بشر غرباء عن بعضهم البعض بإمكاننا رؤيتهم لكننا لا نستطيع الوصول إليهم..
ثمة من يرى نفسه من علو بعيد ربما رأى فاضل حاتم نفسه خلف نافذة ما، يعيش وحيدا وهو يدخن سجائره ويحتسي خمرته وأمامه ورق وقلم وخيال عريض..
لذلك أقول كما يقول هذا التشيلي الكبير: «كل شيء ممكن، على جميع الشعراء أن يعرفوا ذلك» وقد عرف فاضل حاتم هذه المعلومة وطبقها بحذافيرها في شعره وحياته وهي تصارع الموت والفناء..
هذا الشاعر العذب الذي حارب الموت واستطاع أن يقصيه عن حياته وشعره حيث كان مصاباً بمرض خبيث وكانت له جولات طويلة في بيروت للعلاج والكتابة والتأمل، يقيم هذا الشاعر في منزل الشعر وحيداً لا يجاريه أحد في عزلته الحميمية، يعيش أيامه بالقراءة والكتابة والبعد عن ضوضاء المدينة ووباءات العالم وجنونه، فالجنون الذي يسكنه يدفعه إلى ممارسة الشعر حد الوله والتعلق بأهداب حياة ثانية، ذلك لأن كتابة الشعر لديه هي وحدها فرصة للحياة الأخرى التي لا يدخلها إلا الشعراء، اولئك الذين يهربون من آبائهم وأوصيائهم ليعيشوا في يُتم شعري متفرد فهو لم يضطر لقتل أحد من آبائه الشعراء ولا مجايليه ولا زملائه لكنه أقصاهم جميعا بديوان واحد، ثم انهالت عليه الدواوين كقطرات المطر رغم أنه لا يريد أن يكون مكْثراً أو مسِفًّا بالكتابة، فماذا يفعل وسحابة شعره ماطرة دوما ورذاذ حكاياه لم يبخل عليه بمزقة حلم ولا بليلة حب وهو العاشق الكبير الذي يجوب قلوب حبيباته بقلب مشرع على المراكب الهاربة.
نصف رأس مجنون والنصف الآخر مدفون بحقل من الأدوية السامة، أحياناً يخطف السياب من أمامي ما أن أنتهي من قراءة قصيدة من قصائده، فهو أيضا يكتب القصيدة الحرة والكلاسيكية، ويجرب أشكالا أخرى بلا بخل أو تردد أو خوف لأن الشعر عنده سفر، فهو يغادر دائما صوره الضبابية الى مشاهد جمالية مغرقة بالوضوح لهذا باتت نصوصه الشعرية تنضح بالجمال والخيال المتمرد والوحدة القارصة حاله كحال أقرانه الذين سبقوه في حقول الشعر السحرية، مرض وتوحد وتمرد وأشكال تتنوع بتنوع العذابات والأحزان.
هو عاشق للجمال بلا منازع لهذا صار شعره قطعة من أصوات كورال الطبيعة الذي يغني للجمال وهو يعيش تحت وطأة الموت والألم.. ومن هذا كله استطاع الشاعر فاضل حاتم أن يصنع الحياة ويصر على خلق الجمال والشعر بكل شجاعة وتحد.