«هذا هو موفق محمد»

ثقافة 2021/07/12
...

  سلام مكي
 
آخر منجز الباحث البابلي أحمد الناجي «هذا هو موفق محمد»، صدر مؤخرا عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل. والكتاب، كما يفصح من عنوانه، اذ يشي بتجربة شاعر، متفرد، مارس الشعر بروحه، قبل أن يكتبه، عاش بقلبين، قلب يسكن في جوفه، وآخر يسكن في شط الحلة، ويجري مع المياه حتى آخر موجة تغترفها صبية في الجنوب.. أحمد الناجي، كعادته، حين يكون قريبا من مبدع ما، فهذا يعني أن ذلك القرب، سيتمخض عنه شيء ما، كتاب بالأحرى.. فقربه من ناجح المعموري، انتهى الى كتاب (ناجح المعموري.. غواية الاسطورة وسحر الكلام). وقربه القديم من موفق، انتهى إلى هذا الكتاب.
تجربة موفق محمد الشعرية والحياتية، ليست مجرد رقم عابر، تتناوله الأقلام وتمضي إلى حال سبيلها، فموفق، جعل النهر منه شاعرا، قبل أن يتعلم القراءة والكتابة، وموجاته، كانت تحرك في روحه الشيء الساكن، وتطرق بخيوطها الرطبة، أضعف جزء في روحه، منتظرة موعد الانفجار الشعري. وكانت اللحظات الأولى لحياته، إيذانا ببدء لحظة التدفق الانساني، ومن بعدها الشعري.
تجربة محمد والتي لم تكن موضوع اهتمام الناجي فقط، بل اهتمام الكثير من النقاد والباحثين، سعت تلك التجربة إلى إحياء تلك الروح التي خفتت وتلاشت في الشعر، تلك الروح التي سعت إلى المزج بين روح الشاعر وبيئته، بين كيانه الروحي والجسدي، وبين الأزقة والدرابين التي نشأ فيها وترعرع. لذلك، اقترن اسم موفق بالحلة واقترنت الحلة بموفق. 
وأحمد الناجي، ابن الحلة هو الآخر، والصديق الأقرب إلى نفسه، وجد في موفق ملاذا لروحه الهائمة عشقا في الحلة، ونبعا يروي ظمأ نفسه التواقة إلى سيل معنوي يغمر تلك المساحات الواسعة من روحه التي أعياها الخراب. وما ميّز موفق على غيره، ليست الحلة فحسب، بل روحه الثورية، والمتمردة التي صنعت من نصوصه لحظة رفض وتمرد على النظام السياسي وعلى الواقع ككل. 
ولعل إشارة الناجي إلى بعض القصائد التي مثّلت انموذجا واضحا لتلك الروح التي امتلكها موفق منذ بداياته وإلى اليوم. فقصيدة وحيد القرن التي كتبها موفق عام 1969 تشي وبشكل واضح إلى رفض الشاعر لمظاهر الاقصاء والتهميش ورفض الآخر، والتوجه نحو الحياة الواحدة والرافضة لكل مختلف. 
وما العنوان «وحيد القرن» إلا دلالة صريحة على ما نقول. يقول موفق: (فماذا نفعل نحن إذن/ علينا أن نرمي أقلامنا/ من النافذة/ ونرقص سوية/ ويدا بيد تحت المطر).
فرمي الأقلام، دلالة رد فعل الكاتب على تحجيم وتكبيل وتقييد الأقلام، ذلك أن الكتابة تحت ضغط المؤثرات والموجهات، تنتهي بكتابة ممسوخة.. ورمي الأقلام والرقص تحت المطر، دلالة على أن بعد رمي الأقلام والتوقف عن الكتابة، لا شيء يصلح إلا أي فعل عبثي ولا قيمة له كالرقص تحت المطر مثلا.. ولم تقف الروح المتمردة لدى موفق عند نظام معين، فهو رافض لكل أشكال الظلم، مهما كان مصدرها، ومهما بلغت قسوتها، فهو رفض ظلم النظام واللا نظام، ووقف بوجه الطاغية وبوجه الطائفية والقتل، وكتب في ذروة القتل الطائفي، أبلغ وأقسى القصائد التي كانت في حينها أقوى ردا على القتل والموت والتفجير والخطف. 
في (هذا هو موفق محمد) اختط الناجي أحمد منهجا خاصا به، يليق بموفق محمد شاعرا وانسانا، فهو استطاع أن يدخل إلى عوالم موفق الشعرية والحياتية، ليس بسرد أحداث ووقائع وتجارب موفق الكثيرة والمليئة بالعبر والدروس، بل من خلال نصوصه الشعرية، التي شكلت مفتتحا للدخول إلى عوالمه الخاصة، ومثلت كذلك ذاكرة حية وهادرة لمدينة يحلم الجميع بأن تستعيد أمجادها يوما. لقد استطاع موفق محمد أن يصنع من الحلة مدينة متخيلة يسعى الجميع للعيش فيها، والسكن قرب نهرها 
الخالد.