الألم المقدّس والمدنّس

ثقافة 2021/07/13
...

ابتهال بليبل 
 
إنّ التوافق على وضع تفسير موحد للألم النفسي يشبه تماماً صناعة قارب من ورق.. فمن المحتمل أن يتمزق ويتلاشى لحظة تشكيله وربّما حتى قبل أن نضعه وسط المياه، وعلى أي حال، ستفشل المحاولة بالتأكيد.. محاولة التوافق أو الاقتراب من تفسير الألم النفسي.
فهناك احتمالات ضئيلة جدا للتمييز والتحديد أو لاتخاذ قرار ما، عندما ننظر إلى الكيفية التي يدور الناس فيها بعالم كلّه متاهات ومسارب.. يدورون فقط للإحساس بقيمة وجودهم. ومع ذلك فإن هذا الإحساس يتسبب بكثير من الألم من الناحية المفاهيمية.. فأنا أتفهم أن الألم النفسي موجود مثل الألم الجسدي، لكن في النهاية فإن هذا الإحساس يأتي على حساب الشخصية المنهارة.. الشخصية التي تختبر الألم وتعيشه.
من هنا.. يوفر كتاب (الحب المقدّس والمدنّس في حياة فريدا كاهلو) لكلوديا شيفر بترجمة محمد الفشتكي فرصة عظيمة للنظر في جوانب مهمة من سير ذاتية لنساء مررّن بتجربة ألم هائل، فنجد في حياتهن أمثلة إيجابية وسلبية واضحة عن حالات التطرف في مواجهة الوجع ومن خلال هواجس الفن المُنتج من قبلهن يمكن أن نلج هذا العالم.. عالم الألم الصاخب. 
وكلما توغلنا فيه - أي عالم الألم - نجده يشير إلى حالة الأنثى المشحونة بالحياة، ويقدم نوعاً من النساء اللواتي يشكّكن في الغالب في الأنظمة الاجتماعية الحاضنة لهنّ ومع ذلك، فإن جزءا من جاذبيتهن هي مفارقة تاريخية لهن، لأنها - غالبا ما تكون أيديولوجية، حين يتعلق الأمر بالخسارات البيولوجية- وهو ما يحدث دائماً لمن يعشن في تصادم متواصل مع الأشخاص والظروف، ومن ثم يتحولن في كثير من الأحيان إلى عاجزات عن استغلال أية أداة متاحة لهن لشغل الدور الذي هنّ عليه الآن باعتباره من ضمن حقوقهن.
اليوم ومع الذكرى الـ (114) لميلاد كاهلو (1907-1954) التي تحول اشتغالها الفني بعد حادث الحافلة المدمّر من الرسومات الطبية التي كانت ترسمها في المدرسة كفروض وواجبات إلى رسومات شخصية حميمية لأصدقائها وأسرتها. إذ أعطتها موهبتها الفنية بعد الحادث هوية جديدة وطريقة مرئية لإظهار أفكارها ومشاعرها، اليوم ومع هذه الذكرى سيكون من المرضي لي تفسير حياتها على أنها نبذ أيديولوجي، وتحولها من الرسومات الطبية إلى رسومات شخصية حميمية هي إشارة إلى أنها لم تعد قادرة على قبول هذا العالم الذي ستكون طبيبة فيه. لكن هذا أيضا رد فعل، وانهيار ناتج عن اختياراتها السيئة ومزاجها الذي لا يمكن التنبؤ به، فعندما صرحت في مقابلة أجربتها عام 1951 بأن (دييغو هو حادثي الثاني) فإنها هنا لا تدين حبيبها وزوجها الرسام دييغو ريفيرا (1886-1957) لوجوده في حياتها. إنها تدين الألم الذي سبّبه لها، فعمدت إلى تشبيه هذا الألم بحدث مأساوي ثاني بحياتها بعد حادث الحافلة.
حياة فريدا وسيرتها هي سيرة للألم المقدس والمدنس في آن وحينما نصغي لحروفها ونتأمل رسومها نجدها تقول بكلمات تشبه شلال من الملح الهاطل على جراح مفتوحة: مأساة مخيفة عندما أصبُ اهتمامي على صوري الذاتية في رسم نفسي أو الكتابة فقط لأؤكد وجودي المصاحب للألم في الحب واليأس، إذ تتحول الكتابة الصامتة إلى حقيقة جسدية صارخة، لكنني أشعر بالرعب عندما أتذكر الألم، وأرسم أو أكتب: هذا الجسد الذي لا ينهي معاناتي.