رعـد فاضل
كان الاختلاف وفقاً للرؤية الفلسفيّة العربية الإسلامية في الأغلب عقيدة ايديولوجية عرفانيةً لا مساءلة ابيستيمولوجيّة. من هنا كان على العقل الفلسفيّ العربيّ الإسلاميّ التّخلي عن سحريّة التفكير والفهم، وتبنّي الفلسفة الرشديّة كما فعلت أوروبا حتى كادت أن تجعل من ابن رشد أوروباويّاً بامتياز، في الوقت الذي كانت فيه الفلسفة المشرقيّة العربيّة الإسلامية توغل في صياغة آرسطوطاليسها الذي انصرفت إلى تلفيقه عبر محاولات زحزحته عن عقلانيّته وبرهانيته لاكسائه بثوب هرمسيّ غنوصيّ.
*
هل عبد الله العرويّ، ومحمد عابد الجابريّ وجهان لعملة حداثةٍ واحدة ؟. لا يمكن أن يكون العرويّ إلّا من طراز المفكّرين الذين يرون إلى الحداثة على أنّها تكمن في الذّهاب الكامل والمطلق إلى المستقبل دون الالتفات إلى التراث وفحصه فحصاً معرفياً وجمالياً متواصلاً. أمّا الجابريّ فيقول بضرورة تقليب النّظر في المتحرّك من التراث ليكون بالإمكان آبيستمولوجياً صياغة حداثةٍ تتماشج وطبيعة الثقافة العربية، بمعنى أننا لنكون حداثيين (أصيلينَ) لابدّ أن ننظر إلى داخل كلّ حداثة ممكنة في التراث العربيّ نفسه لا من خارجه فقط وهذا، وفقاً لرؤية الجابريّ طبعاً، يتطلّب قراءة عميقة ومتواصلة لهذا التّراث. العرويّ بهذا المعنى انفصاليّ بالكامل إذ لا اتصال له إلّا مع كلّ مستقبل، وما الحاضر بالنسبة إليه إلّا زمن هذا التفكير بما هو قادم. أمّا الجابري فاتّصاليّ مع كلّ مُحدَث داخل التراث وخارجه، وانفصاليّ عن كلّ ما من شأنه عرقلة هذا الاتصال كونه يقوم بدورين في آن معاً: دور المفكّر النّاقد ودور فيلسوف التّاريخ، فهو من جهة ينقد ومن جهة أخرى ينقد نقدَه نفسه. والآن: هل يمكن أن تولد القطيعة معرفيّاً إلّا عندما لا يمكن أن يلتفت الجديد إلى القديم؟. هذا معنىً، أمّا المعنى الآخر: هل يمكن ولو بداهةً أن تكون القطيعة إلّا من خلال حوارين متعاكسين زمانيّاً وثقافيّاً لا عبر الغاء أحدهما للآخر وإنّما عبر اصرارهما على استحالة تحوّل أحدهما إلى استمرار تَـبعٍ للآخر؟. ووفقاً لهذا التساؤل: أليسَ الشّاعر أو الكاتب أو الناقد المفكّرُ الخلّاق لا يمكن أن يتشكّل إلّا عبر خلّاق سابق، أو خلّاقين عديدينَ سابقين؟.
*
الاختلاف لا يعني عتبة إلى القطيعة والنّبذ، ذلك فهم خاطئ قبل أن يكون تفسيراً سطحياً للحَطّ من قيمة الاختلاف وألمعيّته. الاختلاف بعامّةٍ تجديد للعلاقة الثقافية بين طرفين أو أكثر وتقويتها بالحوار والمنافسة المعرفيين، لا كما يجري في الغالب عندنا بالمنافحة والصّراع والسّجال. حوار العقل المعرفيّ من أهمّ مزيّاته أنه منفتح على الآخر دائماً، ديناميّ يستجيب لمتطلّبات كلّ متغيّر وولادات معرفية وجماليّة جديدة.
*
ركّز ميشيل فوكو من جهة عنايته بإرادة المعرفة على الجانب السياسيّ الذي يراه هو من ينهض بهذه الإرادة كونه يتمتّع بالقرار وقوّة السّلطة. من هنا يبرز تناغم رؤية فوكو مع اِرادة القوة النّيتشوية المتمثـّلة بالعزم السياسيّ الذي هو وحده من يرسِّخ أو يهمّش ليعزل ويلغي. ولا ينفكّ فوكو عن التّركيز على هذا العزم بوصفه اِرادة وقدرةً معاً لتطبيق المعرفة. ذلك هو في الغالب العمودُ الفقريّ لكتابيهِ (الكلمات والأشياء) و (حفريّات المعرفة).
*
الكلام هو الذي يُؤدّى شعريّاً، فيما الأسلوب بالنسبة إلى هذا الأداء ما هو إلّا كفاءة مقتدرة لغويّاً وثقافيّاً، وما العلاقة ما بين الدّال والمدلول هنا إلّا الأداء الشعريُّ نفسه. إنّ التشكيل في اللوحة على سبيل التمثيل هو بمعنى ما دالّ يبدو لأوّل وهلة اطاراً من خطوط وألوان وكتل وما كلّ ما نتلقّاه منها إلّا المدلول نفسه. هذه العلاقة ما بين الدّال والمدلول حركة تشتغل كما الـنَّوْل جيئة وذهاباً بينهما: الدّال <---> الحركة <---> المدلول، غير أنّها في الشّعر علاقات لغويّة، أمّا في اللوحة فعلاقاتُ خطوط وألوان وكتل تعبّر بالمُشاهَدة، لكنّ تعبيرها هذا لا يتمّ أداؤه للمدلول إلّا حين يتحوّل من كونه ابصاراً صوَريّاً إلى كلام وبالتالي إلى مدلول، أمّا في الشّعر فالتعبير لغةٌ تتحوّل بفعل هذه الحركة التي بين الدّال والمدلول إلى كلام، ثمّ إلى تشكيل( لوحة، أو صورة) ثمّ إلى مدلول.
*
هل يمكن أن يكون النقد الموضوعيّ سوى وجهٍ من وجوه الظاهراتيّة النقديّة وإن اكتسى زيّاً بنيويّاً؟. إذاً: أليس مهمّة النقد الحقيقية ليس البحث عن العلاقات في النصّ الأدبيّ بوصفها تواصلاً مترابطاً كمثل حلقات في سلسلة، وإنّما تتركّز في توصيف تلك العلاقات ونقدِها، فضلاً على ملء الفراغات الفكرية والجماليّة التي سكت عنها النصّ واكتفى بالتلميح إليها؟. النقد معرفياً - وفقاً لهذا الفهم- إذاً: كتابةٌ أدبيّة في نصّ أدبي.