علي أبو الطحين
لعب الموقع الجغرافي الستراتيجي للعراق كحلقة وصل بين الشرق والغرب دوراً كبيراً في رسم السياسة البريطانيَّة في الشرق الأوسط منذ بداية القرن التاسع عشر. فخطوط المواصلات عبر العراق التي تشكل أقصر الطرق بين بريطانيا ومستعمراتها في الهند وشرق آسيا أصبحت لها أهمية كبيرة لتأمين وإدامة الاتصال وتبادل الرسائل بين لندن وبومبي لحفظ مصالحها السياسيَّة والاقتصاديَّة.
أصدر ملك بريطانيا ويليم الرابع بعد موافقة البرلمان البريطاني مرسوماً ملكياً في سنة 1834 بتجهيز حملة استكشافيَّة لبيان صلاحية نهر الفرات للملاحة من شمال سوريا وحتى خليج البصرة، ليكون أقصر الطرق بين أوروبا والهند. جُهزت الحملة ببناء باخرتين «دجلة» و»الفرات» تحت قيادة الرائد جيسني وبطاقم 53 شخصاً من الضباط والملاحين من البحرية البريطانية والعديد من المساعدين.
يقول الطبيب الجراح ويليم أينزورث، أحد المشاركين في الحملة: «إنَّ حملة الفرات تشمخ دون سابقة في تاريخ الحملات الاستكشافيَّة، في الإبداع، في الضخامة، في قياس الواجب الموكل إليها، في الصعوبات التي واجهتها، وفي أهمية النتائج التي حققتها».
صُنعت الباخرتان دجلة والفرات في مرفأ بيركنهيد قرب مدينة ليفربول في إنكلترا، وكانتا ثالث ورابع مركبة بخارية تُصنع من الحديد في إنكلترا. صُمّمت الباخرتان بغطاس واطئ ليناسب عمق نهر الفرات الضحل في بعض المناطق، خصوصاً في مسطحات الأهوار في جنوب العراق. فالباخرة الكبرى الفرات التي كان طولها 105 أقدام وعرضها 19 قدماً، لا يتجاوز غطاسها الثلاثة أقدام، ومحركاتها بقوة 25 حصاناً. أما الباخرة الصغرى دجلة، فكان طولها 90 قدماً وعرضها 16 قدماً وغطاسها لا يتجاوز 22 بوصة، وبقوة 10 أحصنة. تم نقل هيكل الباخرتين والمراجل البخاريَّة مجزأة إلى مدينة الاسكندرونة على الساحل السوري، ومن هناك إلى مدينة مسكنة في أعالي الفرات. بعد إنجاز تركيب الباخرتين الذي استغرق نحو عام كامل، انطلقت الحملة بالانحدار في نهر الفرات في مطلع أيار سنة 1836.
قبل وصول الباخرتين دجلة والفرات إلى مدينة القائم، في يوم السبت المصادف 21 أيار 1836، وفي الساعة الواحدة بعد الظهر، تلبّدت السماء بغيوم سوداء داكنة وهبّت ريحٌ عاتية محملة بالرمال فلفّ الظلام المشهد كظلام الليل المعتم وتساقطت زخات من مطر ثقيل، فتلاطمت مياه النهر وترنحت الباخرتان على عصف الرياح. سارع الملاحون إلى تثبيت المراسي على ساحل النهر، فنجحت الباخرة الكبيرة الفرات في الثبات، ولم يفلح الملاحون في الباخرة الصغيرة دجلة في إرسائها فانقلبت وغرقت تحت هول العاصفة، تمكن البعض من ركابها السبعة والثلاثين من النجاة وغرق عشرون منهم من الضباط والملاحين وبضمنهم خمسة من المساعدين العرب. وبعد خمس وعشرين دقيقة انتهت العاصفة، وهدأت الرياح وانكشفت السماء الصافية، كأنَّ شيئاً لم يكن قد حدث.
كان قائد الحملة الرائد جيسني وملاح الباخرة دجلة الملازم هنري بلوص لينج من ضمن الذين نجوا من الغرق بعد أنْ لفظتهم المياه إلى جرف النهر، لكنَّ الملازم روبرت لينج شقيق هنري الذي التحق بالحملة كمسافرٍ في طريقه إلى الهند، كان أحد الغرقى العشرين. أمضى أفراد الحملة ثلاثة أيام في البحث عن المفقودين وإيجاد مكان الباخرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبعد أنْ تمّ دفن الموتى، اجتمع القائد جيسني بأعضاء البعثة لتداول الآراء في مصير الحملة بعد حادث غرق الباخرة دجلة ونفاد الأموال المخصصة لاستمرار الرحلة. فكان قرار المجتمعين بالمضي قدماً في إنجاز المشروع وإكمال رحلة الباخرة الفرات إلى البصرة، تخليداً لذكرى الضحايا الذين غرقوا، كما قرروا التخلي عن رواتبهم وتقليص المصاريف.
تحركت الباخرة الفرات نحو مدينة عانه وبقيت راسية هناك لمدة أسبوع انشغل خلالها الجميع بكتابة التقارير والرسائل إلى الهند وإنكلترا، كما تم تصليح وإدامة الباخرة والتزود بوقود الأخشاب للمراجل. وتقرر من هناك ترحيل باقي طاقم الباخرة دجلة الذين لم تعد هناك حاجة إليهم لتقليص النفقات. وبقي في عانه مسؤول الخزينة لحملة الفرات السيد الكسندر هكيتور مع مجموعة من الجنود وقد تمّ تزويدهم بكمية من الحبال والسلاسل الحديديَّة والعتلات مع أجهزة غوص للبحث عن حطام الباخرة دجلة وإنقاذ محتوياتها.
بعد مرور بضعة أسابيع، عندما انخفض منسوب نهر الفرات، تمكن هيكتور وفريقه من العثور على الباخرة دجلة وقد برز قعرها من فوق سطح الماء وهي مقلوبة ومغروسة في قاع النهر ليس بعيداً عن الساحل، وكانت قد انحدرت قليلاً عن مكان اختفائها. تمّ عمل فتحة على جانب المركبة للتسلل إلى داخلها، فوُجد أنَّ الطين قد ملأ جوفها. وعبثاً حاول الفريق باستعمال العتلات والسلاسل الحديديَّة والحبال رفعها أو حتى تحريكها، لكن دون أية نتيجة.
لكنهم تمكنوا من إنقاذ مدفع الباخرة والأسلحة والأجهزة المهمة، فضلاً عن بعض الحاجيات والبضائع.
بعد أكثر من ثمانين عاماً، خلال الحرب العالمية الأولى حاول البريطانيون البحث عن مكان حطام الباخرة دجلة دون جدوى، فالنهر كان قد تغير في مجراه ويُعتقد أنَّ الباخرة أصبحت مدفونة في مكان ما في البرّ على الجانب الأيسر من النهر.
تمكنت الباخرة الفرات من إكمال الرحلة نحو البصرة مع بعض الصعوبات التي واجهتها في اختراق مناطق الأهوار، وأيضاً بعض المشكلات والمناوشات مع العشائر، ووصلت إلى شطّ العرب وانحدرت ببطء لترسو قرب مدخل نهر العشار في البصرة في عصر يوم الأحد 19 حزيران 1836.
ورغم فشل الحملة في إمكانية استخدام نهر الفرات كطريق سريع إلى الهند، فقد حاول القائد جيسني إثبات إمكانية استخدام الباخرة في المساعدة بنقل البريد من الهند إلى إنكلترا عن طريق بغداد، فقام برحلته التجريبيَّة إلى بغداد في نهاية شهر أيلول 1836، ثم حمل منها البريد إلى البصرة، وحين عاد بالبريد القادم من الهند في تشرين الأول 1836 صعوداً في نهر الفرات، جابهت الباخرة صعوبات كبيرة في التقدم في المياه الضحلة، وعلى الرغم من مساعدة مجموعة كبيرة من عمال السحب العرب، لم تتمكن الباخرة من تجاوز مدينة السماوة. فتقرر نقل البريد برّاً إلى الشام وعودة الباخرة إلى البصرة.
بعد نهاية الحملة استُخدمت الباخرة (الفرات) في الأبحاث والاستكشافات الجغرافية في نهري الكارون ودجلة تحت قيادة الملازم هنري لينج، الذي استدعى اثنين من إخوانه، توماس وستيفن للعمل بتجارة النقل النهري في العراق، فتمّ تأسيس شركة (لينج) المعروفة للنقل بين البصرة وبغداد في سنة 1841. وكذلك قام الكسندر هكيتور بالإقامة في بغداد وتأسيس شركة تجارية كبيرة في العراق منذ ذلك الحين.
استمرت الباخرة الفرات بالعمل للبحرية البريطانية في الهند حتى تقاعدت وحُوّلت إلى حديد خردة في سنة 1847.