تنظيم المحتوى الرقمي الثقافي الوطني في وسائط التواصل الاجتماعي

علوم وتكنلوجيا 2021/08/10
...

  الدكتور صفد الشمري
قد ينوه بلوغ مرحلة التعاطي مع مجتمع الشبكات وعائداته موضوعياً، بالحاجة إلى إعادة صياغة مؤسسيَّة للفرد والدولة على وفق مسارين متوازيين للإفادة من هذا المجتمع، وبما يؤمن استخداماً فاعلا للتقانات الرقميَّة، لا سيما بعد أن دخلت هذه الاستخدامات الى يوميات الفرد عبر دلالات متعددة، منها ما ارتبط بمعالجة المضامين الثقافيَّة، التي كانت حتى وقت قريب محددة بالنخبة المختصة، قبل أن تتعاطى معها الأوعية الرقميَّة، وتسهم في إشاعتها، على وفق مضامين الوسائط المتعددة، لتصل حدود من قدموا أنفسهم بمسمى المثقفين الجدد، وصاروا يؤثرون بمستوى الذائقة الثقافية المحلية، بل وفي إعادة تشكيل القيم الثقافية السائدة في المجتمع العراقي.
إشكالية الإشهار
مع حاجة الثقافة إلى أدوات للإشهار، في مسعى قيامها بأدوارها في المجتمعات، وفي مقدمتها وسائل الإعلام التي يفترض أنها تعكس الواقع الثقافي الذي تعيش فيه، كما أنَّ لها الأثر الكبير في الثقافة نفسها، بوصفها السلوك المكتسب لأعضاء المجتمع، وهو ما توصلت إليه الدراسات التي تناولت تأثير وسائل الإعلام في ثقافة المجتمع على المدى البعيد، بتأكيد تلك الوسائل لمعايير اجتماعيَّة قائمة أو محاربة قيم وسلوكيات معينة كانت سائدة وإبدالها بأخرى، وإذا كانت الثقافة هي المسؤول الأول عن خصوصيَّة وملامح أي مجتمع، فإنَّها من دون الإعلام ما هي إلا دائرة مغلقة على نفسها، مثلما أنَّ الإعلام لا قيمة له من دون الثقافة.
ونظراً للمميزات التي أخذ ينفرد بها مجتمع الشبكات، أثارت مضامين الأوعية الرقميَّة نقاشاً وحواراً كبيرين في الأوساط النخبويَّة رأى المتخوفون منها أنَّ في تمكنها من منافسة الوسائل الإعلامية التقليدية في مجال قيامها بوظائفها الثقافية في ظل العشوائية الرقمية التي نعاني منها، الى الحد الذي قد يقضي على تلك الوسائل التقليديَّة تماماً بمرور الزمن، حين يتوجه الجمهور إلى المجال الرقمي للحصول على المعلومات، الأمر الذي يحتم على وسائل الإعلام ضرورة الإبداع والابتكار والخروج عن المألوف وتجنب التقليدي منها، والتكيف السريع مع المستجدات التي تلقي بظلالها على الوظيفة الثقافية للإعلام، وحجم دورها في المجتمعات المعاصرة.
ومع تلك المخاوف، تزداد التحديات التي تواجه ثقافاتنا، لا سيما بعد أنْ صارت الفجوة الرقميَّة ظاهرة لا يمكن تجاهلها، حين أمست مشكلة متعددة، وليست تقنيَّة في كامل أركانها، وإنما ثقافيَّة واجتماعيَّة، فبقدر ما يحتاج تضييق الفجوة إلى توفير الوسائل الفنيَّة، تكون به حاجة إلى نوعٍ من الابتكار الاجتماعي، في وقت تجد فيه الدراسات العربيَّة ضرورة توسيع الوجود العربي على شبكة الانترنت من مظهري اللغة وفي المواقع التي تخدم الواقع العربي.
لقد قدمنا رؤيتنا في هذا المضمار بدراسة قدمناها إلى الدورة العشرين من اجتماع الوزراء المسؤولين على الشؤون الثقافية في الوطن العربي، على هامش اجتماعات جامعة الدول العربية بتونس في 2016، ضمن أطروحة ((الإعلام الثقافي في الوطن العربي في ضوء التطور الرقمي))، وتحت المحور المتمثل بشبكات التواصل الاجتماعي وإنتاج المحتوى الثقافي باللغة العربيَّة، لنتناول معوقات الإفادة من التواصل النافع لتك الشبكات بين أوساط المستخدمين في العراق كأنموذج للمستخدم العربي للإنترنت، وما سبل التوظيف القويم لمثل هذا الاستخدام، لا سيما ما يتعلق بالجوانب الثقافيَّة.
 
مؤشرات الجاهزيَّة
تكون للتقانات الاتصاليَّة الرقميَّة الإسهامة الأكثر أثراً في تنمية المجتمعات وتحديثها، وقد قطع العراق شوطاً فاعلاً في سبيل تحقيق ظروف الجاهزيَّة الرقميَّة، من مُعدات التقنيَّة، وبُناها التحتيَّة الماديَّة والفنيَّة، بوصفها أحد المظاهر الرئيسة للتكنولوجيا، إلا أنَّ إشكالياتنا مع مثل هذه الجاهزيَّة لا تكمن في شيوع وسائطها وتداولها، وإنما في وظيفة استمعالاتها ودوافعها، وهو ما نشدد عليه في أطروحاتنا كلها.
بشكلٍ عام، تتوافق مفردة التكنولوجيا والنواحي التطبيقيَّة، المُسندة بالطرائق العلمية المُحدّثة، والتمكين الكامل من حيثيات الأهداف المُراد بلوغها في مجال محدد الآجال والآفاق.. وبذا، تكون الوسائط التي يجري توظيفها لمهمات تطبيقيَّة، بوتقة الفرد المعاصر لتفعيل حراك قواه، وتحفيز بواعث قدراته، في خوض حديث يكون نتاج معتركه تلبية الاحتياجات الإنسانيَّة، بأنماطها، وأشكالها، ومستوياتها، بالطرائق الُمثلى.
وتُمسي بذلك التكنولوجيا ممارسة تطبيقيَّة تُعنى بوسيطة، أكثر من كونها نظريَّة من نسج مجتمع الآخر، إذ تستهدف سد ثغرات القدرة الفرديَّة التي تشوبها تطلّعات مؤازرة النهضة والتحديث فطرياً، وبما يعمل على تطوير العلم ذاته وحوليّاته، الذي كان الفرد نفسه هو من أرسى أسسها، ويعود بآثاره على نواحي الإيفاء باحتياجات المجتمع ومتطلباته المُستجدة على الدوام، الذي يواصل ذاك الفرد فيه عمليات تنشئته ويتواصل معها، الأمر الذي ينوه بسمو هذا التكامل، بين الفرد بقدراته ومهاراته، وبين التكنولوجيا بوسائطها وعائداتها، وبما يعمل على تنمية المجتمع، بأفراده وتقاناته على حدٍ سواء.
تكاملٌ لم يجر التأسيس لقواعده الصحيَّة في مجتمعات عدة بعد، بالرغم من بالغ حاجتها إلى التنمية والتحديث وإقرارها بذلك، لمرمى اجتماعي يرتبط بالعوز التكنولوجي المرتبط إلى حدٍ ما بالجاهزية الإلكترونية اليوم، التي صيّرت من البسيطة المُستديرة مجرّة رقمية يتلازم في كينونتها الشيء بنقيضه، وبما هيّأ لانبثاقة مجتمع الشبكات.. أو لدافعٍ فردي يتمثل في العزوف عن التعاطي مع تلك الجاهزية في حال أمست واقعة، تعنتاً أو عجزاً حداثوياً، أو قصوراً مؤسسياً في إعادة تنشئة الفرد على وفق معطيات تلك الجاهزيَّة.
إنَّ مواجهة الإشكاليات المرتبطة بالجاهزيَّة المنقوصة، تكون أشبه بركائز ديمومة المجتمعات الحديثة، عن طريق التحضير للبيئة الاجتماعية والنفسية والثقافية، الراعية لتعاملات مكوناتها البشرية والمؤسسية، مع مُستجدات تحديث المجتمعات التقليدية، بما فيها تطوير مهارات المنتفعين منها، وسلوكياتهم الوظيفية المتنوعة، بإعادة تنشئة تلك البيئة، على وفق مُستجدات التحديث ومتطلباته، الذي يقضي بعدم جواز تحديده في مجالات التحضير للبيئة التقنية فقط، ومديات الجاهزية الحاسوبية الإحصائية، ومعادلاتها الرياضية والنسبية، (من قبيل: عدد المنتفعين من تقانات الاتصال الحديثة، نسبة إلى جموع السكان، أو فئاتهم العمرية، أو الدراسية، أو الوظيفية، أو الجنسية.. وغير ذلك).
إذ يمسي نتاج تلك الإحصائيات منقوصاً، غير مكتمل الأبعاد، بالقياس إلى ضرورات الأخذ بنظر الاعتبار دوافع التعرض لتلك التقانات، واتجاهاته، ومجالاته، وتتصاعد ضرورات عد تللك الدوافع مؤشراً مهماً لتحري مجالات نموّها بالشكل الأنموذجي، من عدمه، مع توافر إحصائيات تؤكد بقوة أنَّ من أهم دوافع تعرض مستخدمي التقانات الإلكترونية العرب بشكلٍ عام، لشبكة المعلومات الدولية، يرتبط بالحاجة إلى الهروب من مشكلات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي العربي، باتجاهي: التسلية، أو تفريغ التراكمات النفسيَّة للأفراد، عن طريق المُساجلات الإلكترونيَّة في إطار عدم الانتفاع من مديات الديمقراطيَّة الافتراضيَّة مثلاً.
لقد هيّأت هذه المُساجلات لظروف الفردنة، وسمو الذات الفردية، وشخصنة المواقف والأحداث، والتشدد نحو تلك الذات، واتجاهاتها، على حساب المصالح العامة، في وقت كان يُنتظر أنْ يُهيئ فيه انبثاق بوادر البيئة الإلكترونية المعلومات مجالاً واسعاً للتواصل الإيجابي، والانفتاح نحو الآخر، إلى جانب تنمية القدرات المعرفية للأفراد، وتطوير قابلياتهم، وتحديث مجتمعاتهم، وقد عاد ذلك بآثاره على تحديد مجالات الإفادة من القراءة الإلكترونية، وبما يتطلب حلولاً ناجحة لإعادة توظيف هذه المجالات وفقاً للسياقات النافعة.
 
الذاكرة الإنسانيَّة
تفيد الدراسات بأنَّ الفرد: {يتذكر 10 % مما يقرأ، و20 % مما يسمع، و30 % مما يرى، و50 % مما يسمع ويرى، و70 % مما يقول، و90 % مما يقول ويسمع}، في إشارة لا تحيد عن مسار الحقيقة بأهمية التفاعليَّة الاتصاليَّة التي وفرتها الأوعية الرقميَّة.
إنَّ مثل هذه الحقيقة لم يُكشف عن حيثياتها اليوم، “فمنذ بداية تسعينيات القرن العشرين، صدرت المؤلفات التي تتحدث عن ظهور مجتمع الشبكات ومفاهيمه، وأهمياته للمجتمعات، وكان قسمٌ من هذه التحليلات مفهوماً ضمناً، مثلما في كتاب (الحال ما بعد الحداثة) لديفيد هارفي، إذ لم تكن طبيعة وشكل الشبكات الرقميَّة واضحة بشكلٍ كافٍ في وقتها، فيما تلتها الرؤى الأكثر وضوحاً وإفادة من مرحلة ما بعد الحداثة عند وصف وتحليل نشوء وتطور مجتمع الشبكات، من قبيل: نهوض مجتمع الشبكات، ومجرة الأنترنت، لمانويل كاستيلز، والرأسماليَّة الرقميَّة لدان شيلر، وموقع Web.Studies الذي أسسه ديفيد جونتليت.
وبعد كل تلك المدة.. يبقى على عاتق القائمين بصياغة مرامي تحديث المجتمعات وتنميتها مسؤولية الولوج في نواحي الإعداد للبيئة الرقميَّة المتكاملة، والوقوف عند مديات جاهزيتها أولاً، ومناحي الإفادة من تلك الجاهزيَّة على وفق النهج القويم ثانياً، بوصفها من المسلّمات التي تنأى بنفسها عن أي مسعى للنقض أو المناورة، لا سيما في النواحي المرتبطة بتشكيل القيم الثقافيَّة في المجتمع العراقي.
 
الخلاص الثقافي
إذا كان هناك من شريحة النخبة ما زال ينشغل حتى الآن بضرورة التمييز بين مجتمع المعرفة، ومجتمع المعلومات، ويبنى أسس رؤاه من منطلق أنَّ الأول كان سابقاً للثاني بقرون، فإننا نجزم بأنَّ مجتمع المعلومات، الذي هو في أساسه نتاج مجتمع الشبكات، يعزز من دواعي تحديث مجتمعات المعرفة، وإعادة تكوينها على وفق مستجدات البيئة الرقمية، ذلك أنَّ المعرفة اعتمدت التواصل في صيرورتها ومن ثم تداول مضامينها وتناقحها، وأنَّ سمة التواصل الحديث تعودُ بنا إلى ضرورة التزام قواعد البيئة المُستجدة، لتعزيز المعرفة.
مثلما الأمر تماماً مع التفاعليَّة الاتصاليَّة والاستخدامات الرقميَّة، فحينما تكون التفاعليَّة سابقة للبيئة الرقميَّة، عندما انطلقت مع أول انبثاقة رمزيَّة للاتصال، وربما سبقتها بوقت، فإنَّ البيئة الرقميَّة ووسائطها قد عززتْ من حراك التفاعليَّة ذاتها، وجعلت منها أكثر فاعليَّة وشيوعاً وأثراً في المجتمعات، التي تجري بداخلها الأنماط والمستويات الاتصاليَّة جميعها.
هذا الخليط، يظهر الحاجة العراقيَّة الملحة للحاق بالظاهرة الرقميَّة والتعامل مع معطياتها بواقعيَّة، ومنها ما يتعلق بالقراءة الإلكترونيَّة نفسها، بعدّها دعامة التعرض للمضامين الرقميَّة الثقافيَّة، على تباينها وتنوعها وتعدد مصادرها، ومن ثم تحديد المسار الشخصي لمعالجتها، وأنْ يجري الإعداد لتنشئة رقميَّة قويمة، تنمّي مهارات التعرض الرقمي، بالاتجاه الصحيح، وبما يُسهمُ في تعديل سلوكيات المستخدمين المختصة بتلقي المضامين ومعالجتها، والتعاطي معها في معادلة فكرية - ثقافية معتدلة، تنتهجها الجهات المعنيَّة بالواقع الثقافي في العراق.
* خبير التواصل الرقمي