شعريَّة الانزياح في ديوان «تمرين في النسيان» للشاعر منذر عبد الحر

ثقافة 2021/08/18
...

 أ.د سعد التميمي  
 يعتمد الشاعر منذر عبد الحر في ديوانه «تمرين في النسيان» الانزياح بشكل واسع في قصائده السبع والعشرين ليرسم صورا تقوم على مفاجأة المتلقي بما لا ينتظره، إذ  يبدو الانزياح في بعض القصائد أشبه بالسلسلة المتصلة، فما أن يخرج القارئ من مفارقة دلالية يحققها الانزياح ليدخل في مفارقة أخرى، ليصبح  سمة أسلوبية مميزة ومكثفة تستدعي التأويل والتحليل، ففي قصيدته «تمرين في النسيان» التي اختارها عنوانا للديوان يهيمن الانزياح التركيبي على معظم جمل القصيدة ليجعل الصور الناتجة متراكمة بشكل ملف للنظر، إذ يقول في المقطع الأول من هذه القصيدة:
سأغوي الندم 
أوصيه أن يخفي مساءاته
 ويختار أقبية للنسيان 
يطوي الصباحات
يرتّق الحكمة 
ويروّض القلق
  ففي العنوان يأتي تعليق شبه الجملة (في النسيان) بـ (تمرين) ليحقق انزياحا على مستوى التركيب، له دلالاته التي يقصدها الشاعر ويريد ايصالها للمتلقي التي تتمثل في أن الشاعر يقوم بظروف لم يألفها، لذلك فهو يمرن نفسه عليها، وفي متن القصيدة يوظف الفعل (أغوی) بشكل متقن من خلال إعماله في كلمة (الندم) ليخلق صورة يعبر من خلالها عن إصراره على مزاولة التمرين، وتتكرر هذه الجملة في مطالع ثلاثة مقاطع من المقاطع الخمسة التي تتشكل منها القصيدة، إذ يذكرها الشاعر في الأول ويتركها أو بالأحرى يحاول - نسيانها في المقطع الثاني ويذكرها أو يتذكرها في الثالث ثم يعود لتركها أو نسيانها في الرابع وفي الخامس يؤكد صعوبة هذا التمرين يعود ليتذكر هذه الجملة من جديد، ومن هنا تتجسد صورة صعوبة نسيان التجربة الفاشلة التي يحاول الشاعر نسيانها، ومن ثم صعوبة غواية الندم وإبعاده عن طريقه، وهذا ما يؤكده استعمال الشاعر لسين الاستقبال الدالة على المستقبل مع الفعل أغوي، وهيمنة أفعال المضارعة على هذا المقطع بشكل خاص والمقاطع الأخرى من القصيدة بشكل عام مثل (أوصيه، يغني، يختار، يطوی، يرتق، يروض) ومع ما يتضمنه هذا المقطع من انزياحات تركيبية فإن تغييب الشاعر للندم كان مقصودا، إذ يحاول تغييبه في القصيدة عوضا عن حضوره القوي في الواقع وملاحقته للشاعر أينما ذهب، ومن هنا جاءت ثنائية (الحضور والغياب) من خلال ضمير المتكلم العائد على الشاعر من جهة، والذي يتجسد من خلال الأفعال المذكورة وضمير الغائب العائد على الندم والذي يتجسد من خلال الأفعال المذكورة أيضا من جهة أخرى، والذي يتخذ صورة متنوعة من خلال الانزياحات التركيبية المتحققة في كل مرة، فإسناد الفعل (يخفي) إلى الندم من خلال ضمير الغائب الذي يعود عليه وإضافة “المساءات” إليه من خلال ضمير الغائب العائد عليه ايضا ليخلق صورة شعرية يشخص فيها الشاعر الندم، فينقله من دلالته المعنوية إلى الدلالة الحسية، وهذا الأمر يتكرر في إسناد الأفعال (يختار، يطوي، يرتمي، يرتق، يروض) إلى الضمير الغائب العائد إلى الندم ،وكذلك تعليق شبه الجملة “للنسیان” بالأقبية وإضافة «أحضان» للنفي وإعمال الأفعال (يطوي، يرتق، يروض) في (الصباحات، الحكمة، القلق) على التوالي كل ذلك يخلق مفارقات دلالية تنتج عنها صور شعرية مؤثرة ذات دينامية عالية تضفي ملامح جمالية على
القصيدة. 
 أما على مستوى المفردات واختيارها وطريقة تركيبها في سياقات مناسبة، فإننا نستطيع أن نرصد معجما خاصا ومميزا طالما تكرر في معظم القصائد، فتارة تأتي في عنوانات القصائد، وأخرى تأتي في المتن، ومن هذه المفردات (عربة، هزيمة، موت، دموع، خلب، غنائم الحرب، الوداع، الرصاصة، نياشين، کفن، جراح، قتلی ساتر، السلاح، ملغومة، الدخان، جثث، نار، رثاء حرائق، رماد، القيد، الوثاق، البارود، قناع الوقاية، ملجأ، السرفات، الأرامل)، فهذه المفردات تتكرر بشكل ملفت للنظر، ليعكس هذا التكثيف للمفردات حالة الحزن والأسى على فقدان الأحبة والأصدقاء وخراب
 المدن.
وهذا الأمر ليس بالغريب فالشاعر هو أحد شعراء جيل الثمانينات الذين عاشوا واكتووا بنار الحرب، وهذا ما يفسر ميل الشاعر لمثل هذه المفردات لأنها الوعاء الذي باستطاعته نقل الكثير من الأفكار والمعاني التي تحيط بالشاعر في هذه الفترة، وهذا ما يتجسد بشكل واضح في المقطع الأخير من قصيدة «دع الرقصة آمنة»:
 تقولين ابتعد أيها المضمد
خذ روائح البارود 
والسنوات الشائكة 
والطنين
 خذ أیتام أحلامك 
وورود أرضك الحرام 
ووحشة ساترك
خذ قناع الوقاية 
واحتط به في ملجأ قادم
أحذر السرفات
التي قد لا تخطى ثانية
خذ الحرب كلها
 ودع الرقصة آمنة
 فالشاعر هنا يحشد عددا من المفردات التي يجمعها حقل دلالی واحد وهو الفاظ الحرب (البارود، ارض الحرام، ساتر، قناع الوقاية ملجأ، السرفات) وتعكس هذه المفردات تشبع الشاعر بأجواء الحرب وتفاعله معها وانفعاله بها وتأتي الصور التي تتضمن هذه المفردات بما تعالجه من معان لتصور بشكل مؤثر نتائج الحرب ومخلفاتها، فالشاعر يسقط رغباته على الحبيبة التي تعبر عنها بمخاطبة المضمد، فالشاعر لا يريد أن يشم روائح البارود ولا يريد قناع الوقاية لأن ذلك كله يرمز للحرب وهو يكرهها، ويتضمن هذا المقطع عددا من الصور الشعرية القائمة على الانزياح التركيبي مثل (السنوات الشائكة، وأيتام أحلامك ووحشة ساترك، وورود أرضك الحرام) فإضافة اليتم إلى الأحلام والوحشة للسلاتر والورود الى الأرض الحرام ووصف السنوات بالشائكة يخلق مفارقات دلالية من شأنها أن تستفز المتلقي وتجذبه للنص لأنها تجعل الصور تمتلك دينامية عالية
ومؤثرة.