الفصحى والعامية

الصفحة الاخيرة 2019/02/25
...

حسن العاني 
العديد من مفرداتنا العامية التي لها حضورٌ واسعٌ في اللهجة المحليَّة، لها أصلٌ أو جذرٌ في اللغة العربيَّة الفصحى، وقد تم التصرف بها، إما بتقديم حرف أو تأخيره، أو بتغيير هذا الحرف أو ذاك، أو التصرف الكامل بحيث يصعب إيجاد الشبه بين الأصل والفصيح وبين الاقتباس الشعبي، من ذلك (ليش) مختصرة ومحورة عن (لأي شيء)، أو (شنو بيك) وأصلها الفصيح (أي شيء بك)..الخ، ومن أنواع التصرف الشائعة، تلك التي تذهب بمعنى الأصل اللغوي الى دلالة جديدة قد تبتعد كثيراً في بعض الأحيان.. من بين المفردات الفصحى التي تم التصرف بمعناها نذكر مفردة (المِنّة- بكسر الميم وتشديد النون) ويرادُ بها في المعنى العام، الفضل أو فعل الخير، وهذا ما قالت به القواميس (مَنَّ – يُمنُّ- منّاً – أي أنعم عليه به من غير تعب) و(المنّان – الكثير المنّ والإحسان، وهو من الأسماء الحسنى)، و(المنُّ) مصدر وهو: كل ما ينعم به.. وبهذا المعنى، أي (فعل الخير والفضل)، وردتْ هذه المفردة في القرآن الكريم غير مرَّة، من ذلك قوله تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). 
في لهجتنا العامية تم التصرف بالمفردة أولاً فأصبحت (المنّيهْ- بكسر الميم وتشديد النون والياء)، وثانياً – وهو المهم – تحوّل المعنى تحولاً جذرياً، فمن دلالات (الفضل والخير والإحسان) التي كانت تتضمنها لفظة (المِنّة)، الى المعنى السلبي الذي تذهب إليه لفظة (المِنّيّه) في خطابنا الشعبي المعاصر، وهي تشير الى نوع من الإهانة أو (التعيير – من العار) نحو الآخر إذا أردت أنْ تقدم له معروفاً، ولهذا كثيراً ما نسمع العبارة التالية أو مثيلها من شخص يقول لشخص آخر وهما في موضع خصومة أو خلاف على قضية (شوف.. لا فضل ولا منّيه من جنابك)، وباختصار شديد بات معنى هذه الكلمة، هو الفضل المقترن بالإذلال، وقد لخصته كوكب الشرق بهذا الوصف الرائع (المذل المنعم)، أي الحبيب الذي لا ينعم على جيبه بكلمة غزل أو موقف عاطفي إلا بعد إذلاله بإبطاء النعيم!!
لعلَّ الأمر المهم هنا، هو إنَّ معظمنا ما عاد يميز بين ما هو واجبٌ وبين ما هو (مِنّيّه – بمعنى الفضل)، فالرجل الذي يرعى والديه وزوجه وأبناءه، إنما يتصرف تحت طائلة الواجب الأخلاقي والشرعي والقانوني، وليس (مِنّةً) منه ولا (مِنّيه)، وتسري الحالة نفسها على المستوى الاجتماعي بشتى علاقاتها وصورها، الأهل والأقارب والجيران، ولا خلاف على أنَّ الموظف الذي يؤدي عمله بأمانة لن يكون متفضلاً على أحد أو صاحب (مِنّيه) فذلك هو واجبه، وإذا شكرناه فمن باب المجاملة والذوق والتشجيع، والوزير مثلاً أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية، ليس متفضلاً على شعبه، ولا يقتضي أنْ يتغنى المطربون بحسناته أو يقف الشعراء بين يديه لأنه أمرَ ببناء مستشفى مثلاً، أو أطلق سراح مواطن بريء أو افتتح شارعاً كان مغلقاً، لأنه يؤدي واجبه ويتقاضى راتباً مجزياً عن ذلك، وبالتالي فلا شكر على واجب...