العبر المنسيَّة في ذكرى تنصيب الملك فيصل الاول

آراء 2021/08/24
...

 مهند الهلالي  
 
مئة عام مرت على ارض ما بين النهرين مئة عام عاشها شعب هذه الارض بتنوع اجياله وفئاته ومكوناته، اعوام بعضها مثل جانبا مشرقا، بينما كان الاخر حاملا لبصمات سوداء، نقولها من دون مجاملة او رياء غير اننا كمصلحين لا نرى الحديث عن تلك البصمات السوداء ذات نفع للشعب او البلاد، فنذهب دائما لتكريس المشرق من تاريخنا واستغلال معطياته البناءة.
الذكرى المئوية لتنصيب اول ملك للعراق كانت بمثابة اعلان تأسيس الدولة العراقية الحديثة، بل هي الاولى وليست الحديثة فقط، فلطالما كانت تلك الارض محكومة من قبل جهات خارجية محتلة كانت او توسعية تحت غطاء ديني او استعماري، والمسميات كثيرة لا يسعنا سردها، فالغاية تكمن في العبر لا السرد القصصي.
ففي مثل تلك الايام الخالدات اعلن قبل مئة عام تأسيس تلك الدولة، التي قامت على هذه الارض المقدسة الضامة لشعب استثنائي تحت
كل المقاييس والظروف والعبر، دولة تحمل اسم العراق حملته هذه المرة ليس كولاية او مصر من الامصار، انما ككيان سياسي واجتماعي مستقل تحت راية مستقلة رفعت في ظرف قياسي بين رايات الامم في عصبتها الاممية، بعد احدى عشر عاما وهو وقت قياسي بالمقارنة مع تواريخ الاستقلال السياسي لمحيطها من الدول.
الان نحن امام عبر لا يسعنا الا ذكرها، فمن غير المنطقي ان نمر في هذه الذكرى من دون الوقوف او التبصر في معطياتها، عبر نراها تحمل من المعاني نورا يضيء درب الاجيال الحالية، اذا ما استثنينا الجوانب المظلمة او النقاط السوداء التي نوهنا عنها في مقدمتنا، ففي جميع تجارب الشعوب التأسيسية نرى هفوات عدة يمكن لنا تجاوزها من خلال تعزيز الثقة بالجوانب الايجابية والسعي الى استثمارها، والاستفادة من تجاربها من خلال تطويرها ونبذ التراجعات التي شهدتها في محطات زمانية معينة.
 وحتى لا نطيل الحديث عن المحيط وندخل في الجوهر نرى اننا امام مسؤولية تاريخية تدفعنا للحديث عن تلك الجوانب المشعة في تاريخنا الحديث ومن بينها، ان تلك الدولة قامت على اطلال ثورة شعبية مباركة، قادها العراقيون ضد الاستعمار البريطاني من دون اي مقارنة عسكرية او ثقافية او بنيوية تذكر بين الثائرين الذين مثلتهم شرائح مجتمعية عراقية بسيطة، قادها الحس الوطني وحب تراب ارضهم التي نشؤوا فيها وبين جيوش دولة او امبراطورية هي الاولى في العالم عسكريا وعلميا وسياسيا.
فما الاسباب التي ادت الى خضوع هذه الدولة العظمى للبسطاء العراقيين في ذلك الحين؟.
الجواب ربما لن يكون صعبا او يحتاج للحظات تمعن حتى يقال وهو ان عنصر المفاجأة الادراكية، الذي اظهره هذا الشعب بثورتهم لم تتوقعه بريطانيا، المفاجأة هي توحد الطوائف والفئات والمكونات والاعراق المجتمعية في هذا البلد، تحت لواء البلد الواحد وايمانها المطلق في ذلك الحين بانها امتداد لعظمة اجداد خوالد، تركوا بصماتهم المنيرة في ارجاء المعمورة وانهم يستحقون ان يضاهوا الامم وان يكونوا اصحاب قرار وكلمة حرة في هذا العالم، بل ان ايمانهم المطلق بأنهم احرار وليسوا عبيدا، مثل صدمة كبيرة للمحتل الذي ادرك ان هذا الشعب على استعداد لمواجهة الابادة الدنيوية مقابل عدم خضوعه لواقع لا يليق به او بهويته الانسانية الكبيرة او الرسالة المقدسة، التي نقلت عبر اجداده لتكون منارة للعالمين في ما بعد.
الدرس الثاني لهذه الذكرى تمثل بتحديهم للامبراطورية التي ثاروا عليها ليس عسكريا هذه المرة، بل سياسيا واجتماعيا من خلال اتفاق الثوار على تنصيب احد وجهاء الامة في ذلك الحين واشرافها ملكا على العراق، وهو الامير فيصل بن الحسين نجل قائد الثورة العربية الكبرى الشريف الحسين بن علي والي مكة، اي ان العراقيين اوصلوا رسالة للانكليز مفادها بأن لدينا اشرافا ذات سلالات تاريخية عظيمة كتاريخ سلالات ملوككم او سائر ممالك العالم الاول في اوروبا، حيث كانت شعوب الغرب تتغنى بامجاد تلك السلالات حينها. وهذا الامر ان دل على شيء، فهو يدل على عمق الايمان بالهوية التاريخية وليس وعيا وحدويا مرحليا فحسب.
ان الدروس كثيرة والمعاني جلية وان ذكرنا للابرز لا يلغي الاخرى، التي لا تقل اهمية عن ما تطرقنا اليه وربما نتمنى عند استذكارها احيانا ان يتحلى ابناء الجيل الحالي ببعض منها ان صعب التحلي بغالبيتها، فكم نحن بحاجة الان الى تلك المعاني وهذا الوعي، الذي لو تحقق لكان حال البلاد والعباد على غير ما هو عليه الان، غير ان ايماننا بقدرة شعبنا على استنهاض الاصول العريقة لدمائهم يدفعنا للتذكير والموعظة علها توقظ من نسي او تناسى.