{دَمُهُ} وإشكالية الرواية والتأريخ

ثقافة 2019/02/25
...

د.ثائر العذاري
 
 
لئن كان التأريخ برجوازياً كما يقال، لأنه لا يخلد إلا العظام الذين صنعوه، فمشكلة التاريخ العربي أعمق، فقد كان يدون بأيدي الطغاة عبر مؤرخين يستأجرونهم أو يتطوعون هم بأنفسهم طمعا بعطايا الطاغية. وهكذا وصلنا تاريخ نظر إلى الزمن من زاوية واحدة، هي زاوية نظر الحاكم للمحكوم أو الملك 
للرعية.
وإذا كانت الرواية تأريخا شعبيا فرواية (دمه) للروائي العراقي محمد الأحمد ( دار فضاءات للنشر والتوزيع- عمان- 2018 ) تذهب إلى أبعد من هذا، فهي تحاول إجابة السؤال: ماذا لو قيض للمظلوم أن يكتب التاريخ بيديه؟ والإجابة المنطقية هي أنه سيكتب كل ما يكشف ظلامته ويتجاهل ما يسبب اللبس فيها. وهو بهذا لن يكون منصفاً كما لم ينصفه تأريخ الطغاة،  أو إنه سيرد على التطرف بتطرف
 مضاد.
بنيت الرواية على خبر جريمة بشعة حدثت في أواخر العصر الأموي، وهي حادثة ذبح الجعد بن درهم على يد خالد القسري والي الكوفة أبان خلافة هشام بن عبد الملك عام 119 للهجرة، حيث ذبحه  تحت منبر مسجد الكوفة صبيحة عيد الأضحى كما لو أنه أضحية يتقرب بها إلى الله. غير أن المهم في الرواية أنها تسخر بنيتها الشكلية لقراءة
 التاريخ.
بنيت الرواية من ثمانية فصول ونظرة عجلى إلى عناوينها ستوضح
 الآتي:
إن أحداث الرواية تقع في ليلة واحدة هي ليلة مقتل الجعد، فقد حملت الفصول الفردية التسلسل عنوانات تحدد زمنها بصلاة المغرب ليلة عيد الأضحى
ثمة أربعة فصول عنونت بطريقة فهرسة المخطوطات.
إن عنوان الفصل الأخير (المخطوط) يختلف عن سابقاته، أي أنه لا يقع في تسلسل المخطوطات نفسه.
تتنازع تيار السرد في الرواية ثلاثة أصوات؛ أما الأول وهو الغالب فهو صوت راو مشارك نكتشف فيما بعد أنه أخو الجعد بن درهم الذي اخترعته الرواية، إذ لا نجد له ذكرا في المراجع
 التأريخية.
وأما الثاني فهو صوت الجعد الذي يصلنا عبر رسائله لأخيه أو قصاصات الورق التي كتبها ليلة إعدامه حيث أمر خالد القسري أن يعطى ورقا 
وأقلاما.
وأما الثالث فهو تعليقات قصيرة تظهر في أواخر المقاطع غالبا مسبوقة بشرطة حوار (-).
تعرض الفصول المعنونة بطريقة فهرسة المخطوطات، عدا الأخير، أفكار الجعد بن درهم المتعلقة بتنزيه الله من الصفات، ورؤيته الكونية، وتقديراته المتعلقة بالثقافة العربية في الشام والكوفة، ينقلها أخوه نصا من سبعة مجلدات كما تخبرنا الرواية:
"أخفى شقيقي مجلداته "السبعة" في مكان لم يخبر به أحدًا،." ص96
لكن من السهل أن نخمن أن الأخ كان يعرف مكانها وينقل منها.
أو ينقلها من رسائل كان يكتبها إليه عندما كان الجعد في الشام بينما كان هو في الكوفة:
"بعد افتراقنا بقي يرسل لي خطاباته، فأرد عليه بمثله، يكشف لي عن حبه للتفكير الفلسفي والخوض في غمار الفلسفة." ص36
أو ربما تكون منقولة من قصاصات كتبها الجعد ليلة إعدامه، فقد كان خالد القسري قد "طلب أن يضعوا له أقلاما وأحبارا وكمية من الورق، ليكتب بها ما يشاء" ص61، ونقرأ في آخر الرواية وتحديدا في المقطع 8 من الفصل السادس:
"كيف يمكنني كتابة كل تلك الكلمات التي ملأت حوض مجلداتي السبعة،...."ص102 والأغلب أن هذه إحدى القصاصات التي كتبها وهو يستعد للموت على يد
 القسري.
تمثل وجهة النظر ركنا أساسيا في هذه الرواية، فهي تعرض حقبة من التاريخ العربي من وجهة نظر أخي الجعد الفارسي الذي نشأ في نيسابور لأب نساخ مولع بالمخطوطات، يقول:
"على ظهر حمار، أجوب المدن والقرى بحكاياتي أحكي للأولاد والمسنين متناغما مع خطوه،..." ص65
يكشف هذا المقطع الراوي والمروي له وزمن الروي. فأحداث ذبح الجعد يرويها أخوه بعد أن فر عائدا إلى نيسابور لكنه يتنكر بهيأة حكاء على حمار يروي للناس سيرة الجعد بالتلميح لا التصريح خوفا من أن ينكشف أمره، غير أن العبارات التي كانت تأتي مسبوقة بشرطة حوار إنما هي تعليق لأحد المستمعين الذين كانوا يسمعون من الرجل 
المتخفي.
إن صفات الراوي هي الموجه لوجهة نظره، هارب متنكر خائف من الموت الذي يترصده موتور بتلك القتلة البشعة لأخيه، وقبل كل ذلك فارسي قتل العرب أخاه.
يعرض الراوي عدة أحداث يحاول فيها البرهنة على الظلم والإجرام الذي يمارسه الأمويون، لعل أبرزها حكاية والدة خالدة القسري التي رواها مفصلا. فقد كانت نصرانية باهرة الجمال متزوجة من نصراني، فما كان من أحد الأعراب (هكذا وصفه) إلا اختطافها ومعاشرتها، كان الأعرابي أحد رجال الخليفة الخلص،  وعندما طلب زوجها النصراني العدل من الخليفة حكم أن يطلقها النصراني مقابل مبلغ من المال وزوجها للإعرابي الذي أنجب منها خالدا!.
وفي كلام الراوي مقاطع تضع العرب مقابل الفرس لبيان مساوئهم؛ فأصحاب الحمامات يختزنون كتبا عظيمة كانت من بعض ما بقي من مكتبة الإسكندرية التي أحرقها العرب عند فتح مصر،  يختزنونها لحرقها وقودا لحماماتهم. ص38
ويتحدث الراوي عن طفولتهما هو وأخيه في نيسابور حيث:
"أيام طفولتنا كانت أغلب المدارس تهتم بالقتال مكملا للعلم. وكنا جميعا نحب لعبة الشطرنج... إذ كانت تمنح التبحر في الخيال....." ص29
بينما يكتب الجعد في إحدى رسائله لأخيه:
"ليل دمشق مؤنس جميل، يعج في حارتنا بلعب الأولاد، لم أر أحدا منهم يلعب الشطرنج على
 الإطلاق...."ص37
فبينما ينشئ الفرس أبناءهم على التخطيط العقلي للحياة الذي يتدربون عليه عبر اللعبة، لا يلتفت العرب إلى
 ذلك.