الثقافة المجتمعية والمخيال الأنثروبولوجي

آراء 2021/08/28
...

 د.يحيى حسين زامل
يرتبط مصطلح «المخيال» بـمصطلح «الخيال»، إلا أن الأخير هو مصطلح مركب عام للصور، بينما الأول أشبه بصور ممارساتية، لأنه يشكل الأحكام والتنميطات عن الآخرين، ويعنى مصطلح «المخيال الاجتماعي» «Socialimagination»، بالتصورات التي تتبلور بصورة جماعية لدى ملايين البشر، نتيجة لتعرضهم للرسائل الثقافية نفسها، من خلال البث التلفزيوني المباشر عبر الاقمار الصناعية، فضلا عن شبكة الإنترنت التي تقع في قلب الثورة الاتصالية الراهنة «ياسين: 2002،ص7»، وفي العهود الماضية كان الخيال ينطلق في إطار الخصوصيات الثقافية العديدة للمجتمعات، وكان غالباً ما يظل حبيس جدران كل ثقافة، غير أن الخيال انطلق إلى مدارات أوسع حين تحسنت وسائل المواصلات والاتصالات بين دول العالم، وحين تصاعدت معدلات السياحة، والهجرة للعمل في ولأخرى، ومن ثم تحرر خيال الإنسان من أسر ثقافته الخاصة، وأصبح يستطيع أن يحلق في سماوات أخرى، وشاهد بنفسه نسبية القيم، وتجليات الأرواح المختلفة، وأصالة التنوع الإنساني«ياسين:95»، وبذلك ادرك بوضوح قيمة المخيال الثقافي في صنع الحياة.
وعن مصطلح «المخيال» كتبت «فالنتينا غراسي» كتابها المهم «مدخل إلى علم اجتماع المخيال، نحو فهم الحياة اليومية»، لتركز فيه على الأهمية المتزايدة لدراسة العادات والتقاليد والمعتقدات
والتمثلات الاجتماعية اليومية، وما يطلق عليه مسائل «الميكرو»، التي حجبتها مواضيع «الماكرو» الكبرى، وتتطرق الباحثة في مساهمتها المعرفية إلى ظواهر كانت مهملة ومرمية خلف تهمة «الإيديولوجيا التحقيرية»، لتشكل في ما بعد 
بادئة معرفية منهجية لدراستها التي تندرج في إطار علم اجتماع المخيال، وهو مجال مهم أدَّى فيه «جيلبير دوران» دوراً أساسياً، وكذلك اسهم فيه إسهاماً أساسياً «شارل مافيزولي» من خلال تركيزهم البحثي في اليومي 
والراهن.
 
المخيال في الفكر الغربي
 ويلاحظ «جيلبر دوران» بأن هناك نقصاً في ما يخص الكتابات الثقافية المخصصة لدراسة المخيال في الفكر الغربي، وذلك أن الفكر الغربي، لا سيما الفلسفة الفرنسية، لديه تقليد مستمر يحتقر من خلاله الصورة ووجودها، ودلالة المخيال نفسياً، ولهذا وجب في نظره العمل على رد الاعتبار للمخيال بوصفه بعداً أساسياً من أبعاد الإنسان، وهو ما سيمكن من إعادة النظر في مجموعة من الممارسات الإنسانية وإعطائها حقها في الكلام، ومن بين تلك الممارسات، يذكر «دوران» الميثولوجيا والسحر والأستروبيولوجيا، «علم يهتم بالبحث عن أصل الحياة في الكون»، وعلم البلاغة، والفكر ما قبل المنطقي
عموماً.
المخيال في السلوك اليومي
 يسمح لنا المخيال الأنثروبولوجي في السلوك اليومي برؤية كيف يمكن لأي سلوك تقريباً أن يطبق عليه الخيال الاجتماعي، ويمكن فحص شيء بسيط مثل شرب فنجان من الشاي أو القهوة من عدة زوايا مختلفة، فمثلا: يمكن النظر إلى شرب الشاي على أنه وسيلة للحفاظ على صحة جيدة مثل تناول المكملات الغذائية أو الفيتامينات اليومية، ويمكن عدّ شرب الشاي أو القهوة تقليداً أو طقساً، إذ يختار الكثير من الناس صنعه بالطريقة نفسها كل يوم في وقت معين، ويمكن عدّ شرب الشاي أو القهوة إدماناً لاحتوائهما على مادة الكافيين، ويمكن أن يكون شرب القهوة نشاطاً اجتماعياً لأن «تناول القهوة» يركز بدرجة أقل على المشروبات وأكثر على التحدث مع الآخرين، أو بوصفه وسيلة من وسائل الترحيب بالضيوف واكرامهم، وبمجرد أن تبدأ في التفكير في مختلف القضايا أو الأنشطة في وجهات نظر تختلف عن منظورك الخاص، فإنك تدخل عالم الخيال الاجتماعي، وتشمل السلوكيات اليومية الأخرى التي يمكن مشاهدتها باستعمال تقنية التخيِّل الاجتماعي، مثل: ممارسة الرياضة أو مشاهدة التلفزيون أو امتلاك حيوان أليف، وكم عدد وجهات النظر المختلفة التي يمكنك التفكير فيها لهذه الأنشطة؟
 
«استكان شاي»
 يحتاج احتساء الشاي إلى إناء، وهذا الإناء يطلق عليه في الثقافة العراقية «الاستكان» وهو فنجان زجاجي بمقبض أو من دونه يستعمل في أغلب الدول العربية لشرب الشاي، وكلمة «استكان» أصلها من اللغة الروسية «Стакан» بمعنى قدح زجاجي أو زجاجة، وسبب انتشار اللفظ الروسي في العراق لأنه كان يسوَّق مع «السمَّاور الروسي» حين دخلا معاً البلدان العربية من روسيا إلى العراق عن طريق تركيا، ويقال إن أصل كلمة «استكان» هي كلمة انجليزية منحوتة أطلقها جنود الاحتلال البريطاني على قدح الشاي العراقي، إذ تتكون هذه الكلمة من ثلاثة مقاطع، هي «east وتعني شرق، و«tea» وتعني شاي، و«can» وتعني وعاء أو علبة، وتكتب في العربي «ايست تي كان» أي «استكان» والمعنى الاجمالي لها هو «قدح الشاي الشرقي»، وقد استعمله العراقيون مطلع القرن العشرين، في العام 1914، بعد أن أحضره البريطانيون للعراق، ويُعد الشاي الأكثر استهلاكاً في العالم بعد الماء، وفي العراق يعد المادة الأساسية في غذاء العراقيين، فالشاي يرافق جميع وجبات الأكل التي يتناولونها، واستعمل الشاي عند أول اكتشافه كوصفات علاجية، ثم تحول إلى حاجة غذائية وعادة اجتماعية، وصار الشاي في العراق عادة عراقية ثقافية يومية ومظهر من مظاهر الترحيب والضيافة، وهو أول ما يقدم للضيف بعد الماء، والأسر الفقيرة منذ الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي يقدمون لأطفالهم عند الفطور صباحاً «ثريد الشاي»، وهو عبارة عن قطع من الخبز مع الشاي والسكر، وكذلك أصبح عادة اجتماعية وثقافية تمارسها الأسر العراقية يومياً شرب الشاي في عصر كل يوم مع الكعك، أو من دونه، وهم يقومون بغمس الكعك داخل «استكان الشاي»، ومن ثم أكله واحتساء الشاي 
بعدها. 
 
تحليل وتفسير
 وهذه الممارسة اليومية البسيطة يعدها البعض شيئاً تافهاً، ولكن أثبتت الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية أن ليس هناك شيء تافه في الحياة اليومية، ومن خلال هذه الممارسات يمكن تحليل وتفسير الثقافات المختلفة والولوج منها للتأثير أو التغيير أو حتى السيطرة في هذه الثقافة أو تلك، من خلال هذه الممارسات التي تنمط المجتمع وتوسم المجتمع بصور وأشكال متميزة يمكن من خلالها تميز مجتمع من غيره، ولو تتبعنا الدراسات الأنثروبولوجية الرائدة لوجدنا أنها تهتم بعناصر ثقافية أقل أهمية من شرب الشاي في الثقافة 
العراقية.