شاعرية الجغرافيا وجمالية المكان العراقي

آراء 2021/08/29
...

  صلاح حسن الموسوي
جمعني لقاء في الخارج بأحد الأخوة السوريين من ابناء مدينة الرقة، وهي مدينة تقع على نهر الفرات، واكثر ما شغل كلامه ولعه الشديد بالغناء العراقي، وقوله بأن ابناء مدينته يفضلون الغناء العراقي على جميع انواع غناء العالم، وقد استرعى انتباهي نهر الفرات الرابط بين الرقة والعراق، حيث يمكن القول بأن ثمة روحا فراتية مشتركة تمتد على طول مسيرة نهر الفرات الخالد، وقد خص ابن خلدون في مقدمته الشهيرة الغناء بوصفه المجس الأول والأكثر حساسية لمصير المجتمعات
 
حين يبدأ الانحطاط بمداهمتها، حيث اول ما تظهر علامات هذا الانحطاط على غنائها، ولنا في العراق، بلاد النهرين دجلة والفرات مثال ساطع: كيف كان للغناء العراقي ايام عزه، سمة التوحد التدريجي لمجتمعه الحديث، حيث اتحد ما يعرف بالغناء الجنوبي بالغناء البغدادي في اغنيات السبعينيات خاصة، ولم تقف اللهجات المختلفة حائلا دون توحيد الذائقة الفنية الوطنية العراقية، واكثر ما تجسدت الوحدة بالمبدعين انفسهم، فعلى سبيل المثال للحصر، توزع كل من ناظم الغزالي وسليمة مراد وعفيفة اسكندر واحمد الخليل وحسين نعمة وداخل حسن وسيف الدين ولائي وعبد الكريم العلاف، بين أديان ومذاهب وقوميات مختلفة وفي فسيفساء فنية رائعة داخل الوطن العراقي الواحد. 
اذا كان التاريخ فلسفة الزمان فأن الجغرافية هي فلسفة المكان، وعلى حد قول الدكتور جمال حمدان صاحب الموسوعة الجغرافية الشهيرة، شخصية مصر – دراسة في عبقرية المكان : «أن نعتصر روح المكان ثم نستقطره حتى يستقطب في أدق مقولة علمية مقبولة، ويتركز في اكثف كبسولة لفظية ممكنة – وان وحدة مصر الحقة انما تتبلور في جغرافيتها الباقية، اكثر بيقين مما تبدو في تاريخها المفعم بالمتغيرات، والاستمرارية بالبديهية ابرز في جغرافيتها، فيما ان الانقطاع اغلب بالمقارنة على تاريخها». وواحدة من الماَثر الوطنية التي تحسب لجمال حمدان وكتابه «شخصية مصر» هو فعل المضارعة والتحدي للعمل الموسوعي، الذي لم يكتب مثله عن مصر وهو موسوعة «وصف مصر» التي كتبت بـ 24 مجلدا في الأعوام 1803 -  1828 وذلك بتوجيه من المستعمر الفرنسي نابليون بونابرت، وبجهود العشرات من الخبراء الفرنسيين في اختصاصات الجغرافية والفن والكيمياء وعلم الآثار.
 التاريخ تصنعه الجغرافيا، مقولة لاغبار على صوابها، فالعراق الذي أخذ مسميات متعددة: ميزوتامبيا، بلاد الرافدين، بلاد ما بين النهرين، ارض السواد، بلد اشتهر بتاريخ ملأ الآفاق، وقد لعبت الجغرافيا دورا محوريا في تخليق تاريخه، فموقعه الوسطي بين امم متعددة، العربية. الفارسية، التركية، وطيب ارضه وغزارة مائه، التي جلبت له هجرات الأقوام من كل حدب وصوب، وتنوع تضاريسه التي اتخذت سمة الانسيابية والتدرج في الوعورة، نزولا من الشمال الى الجنوب، وخصوبة ارضه التي تغنى بها الرحالة والزوار الأجانب حيث قال هيرودتس الملقب بابا التاريخ لا نظير لجودة زراعته وطيب ثماره. ولكن الثقافة العراقية الحديثة التي تميزت بالنتاج التاريخي الثر والمميز على صعيد الوطن العربي، وفي مقدمة المبدعين بالعطاء التاريخي جواد علي صاحب الكتاب والمصدر الأوحد «المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام» والدكتور عبد العزيز الدوري احد مؤسسي الدراسات التاريخية الحديثة وعبد الرزاق الحسني واحمد سوسة، الذي اغرته جغرافية بلاده الى التحول من مهندس ري الى عالم بآثار وتاريخ العراق والدكتور طه باقر وغيرهم، لم تحظ بالمقابل بميزات على صعيد العطاء في الأبحاث الجغرافية والابتكارالتكاملي مع العلوم الأخرى لتوليد منظومة علمية تكاملية تستوحي اصول فلسفة المكان، لصنع فلسفة انسانية بعدّ الانسان هو الساكن الرئيسي لهذه البلاد، وهذا النقص في الابداع الجغرافي يدخل في قائمة العوامل، التي حجمت من ظهور تميز وتواصل فكري في الثقافة العراقية الحديثة، ويضاف الى نقوصات العلوم الأخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة في المقاربة الابداعية لانتاج منظومة فكرية عراقية، قادرة على رص البنية المجتمعية وارشادها الى طريق الابداع 
والتقدم. 
في مجال الجغرافية تطول قائمة الجغرافيين المبدعين باختصاصات جغرافية معينة كالتربة والمناخ والموارد الطبيعية والديموغرافيا وغيرها، والطموح انه مثلما تعمل الجغرافية على تضاريس الأرض، ايضا لا بد أن تقارب في عملها تضاريس الروح العراقية، وتؤكد من خلال عبقرية المكان العراقي المميز وحدة المنبع القيمي وحقيقة المستقبل الواعد للشعب العراقي بحكم المعطيات الايجابية للجيبولتيك والديموغرافيا العراقية، وقد اتخذت الجغرافيا في العالم منحى تطوريا يمكن تسير عليه العلوم الجغرافية في العراق، اقتداءا باعلام كفرناند بروديل، الذي قال إن القوى الطبيعية هي التي تلعب دورا كبيرا في خلق التيارات والاتجاهات التاريخية الدائمة، التي تفرز بدورها التداعيات السياسية وتشعل فتيل الحروب الاقليمية. والمفكر الأميركي روبرت دي كابلان الذي ابرز وبقوة اهمية الجغرافيا في صنع السياسة والاقتصاد، وحتى غاستون باشلار الذي حدد في كتابه الشهير «جماليات المكان» الصورة الفنية للمكان وقيّم المكان التي نعتنقها، ونكون على استعداد للدفاع عنها ضد قوى الانتهاك المعادية.