خيارات الصدام

آراء 2021/08/30
...

  د. صائب عبد الحميد
هناك حكاية حبلى بالدلالات، حكاية أوردها أبو التاريخ هيرودوت، عن ملك الفرس داريوس الاول، حكاية الامتحان الصعب الذي اقحم فيه داريوس الاول كلا من الاغريقيين والكالاتيين المقيمين في بلاده، اذ كان الاغريقيون آنذاك يحرقون موتاهم، بينما كان الكالاتيون يلتهمون موتاهم.
 استدعى داريوس الاغريق وسألهم عن الثمن الذي يرتضونه كي يلتهموا آباءهم بعد وفاتهم بدلا من الحرق، فنفروا من هذا العرض وقالوا لا شيء على وجه الارض يمكن أن يغريهم بفعل هذا. ثم استدعى الكالاتيين بحضور الاغريق، وسألهم عن الثمن الذي يرتضونه ليحرقوا جثث آبائهم عند موتهم، فصرخ هؤلاء وناشدوه الا يذكر أمامهم مثل هذه الشناعة.
تلك الواقعة التاريخية، أو ربما الاسطورة العبقرية التي نقلها هيرودوت، حكاية غنية بالدلالات التي تتسع لمساحات والوان الحوار العقدي، بين سائر الايديولوجيات التي تعتنقها البشرية. فنحن هنا امام احتمالات متعددة لطبيعة الحوار او الصدام المتوقع جراء هذه المواجهة المباشرة بين عقائديين من ملتين لهما رؤيتان متضادتان إزاء قضية واحدة، فبقدر ما تتوفر كل ملة على يقين برؤيتها الخاصة، فهي تمتلك بالقدر ذاته الموقف العقدي والنفسي المضاد تجاه الرؤية المخالفة. فما الذي يمكننا أن نتوقع حصوله في تلك المواجهة؟
إن أية مواجهة على هذا المستوى قد تقود الى نزاع شديد، والنزاع الشديد كثيرا ما يقود الى العنف، على أي مستوى كان، وهذا هو الاكثر وقوعا في تاريخ المواجهات العقدية، قديما وحديثا وحاضرا. وليس بالضرورة أن يكون العنف خيارا مبدئيا في أي أيديولوجيا، وإن اتخذته الماركسية أساسا فلسفيا للتغيير يخترق حتى حتمياتها التاريخية، لكن أيديولوجيات كبرى كالمسيحية (في اصولها الاولى) والكونفوشيوسية والطاوية والبوذية، كلها ايضا في اصولها الاولى، لم تنظر اليه بمثل هذه النظرة. أما في الاسلام فيبدو الامر حمالا ذا وجوه، فهو جاهز للتوظيف واستدعاء أي من وجوهه المختلفة بحسب ما تقتضيه المرحلة، أو توجهات الاطراف المختلفة، لتستند اليه في تبرير منهاجها. وهذه واحدة من المعضلات الكبرى في الفكر الاسلامي، ليس بإمكاننا أن نتخيل توحيد الرؤى حيالها. ولعل جولة مقارنة في فقه الحرب والجهاد بين عشرة من الفقهاء من مراحل تاريخية مختلفة وتوجهات منهجية مختلفة، تسفر عن حجم هذه المعضلة وعن صعوبة الوصول الى توافقات مبدئية حولها. 
وفي كل الأحوال سيكون العنف هو الخيار الأكثر سوءا على الدوام في أية مواجهة. أما الوجه الحسن للعنف والحرب الذي تحدث عنه هيجل وغيره، فليس داخلا في هذا الميدان على الاطلاق، أعني ميدان الخلاف او النزاع العقدي والفكري، إنما هي تلك الحروب التي تعيد اليقظة الى شعوب طال سباتها، والى حياة طال ركودها حتى تعفنت. أما أنا فلا أتحدث عن وجه حسن للعنف أو الحرب حتى لو كانت من ورائه حتمية تاريخية، أو وسيلة لبلوغ أغراض دينية. وقد يكون جوهر اختلافي هو أنني تشغلني ضحايا الحروب ومخلفاتها المرة على الانسانية، أكثر مما تشغلني أغراضها وأهدافها. لا شك أن الفريق المنتصر في أي حرب سيكون دائما هو الأعلى صوتا في تمجيدها والاطناب في التذكير بمكاسبها، وهذا وحده يغنيني تبريرا لبغضي الحرب وتحيزاتها. ناهيك عما يداخلها من غدر ومكائد وخسة يقتضيها البحث عن النصر الميداني غالبا. ومن هنا فإن العظماء الذين يخوضون حروبا صعبة متمسكين بكل أخلاقياتهم الاولى، لا يفلحون في حسمها لصالحهم، بل يدفعون لقاء مبادئهم الاخلاقية والقيم النبيلة التي امتثلوها أثمانا باهظة، لا تنتهي بمصارعهم وهزيمة عساكرهم، بل أيضا بانكفاء تلك المبادئ والقيم ذاتها حقبا تاريخية غير قصيرة. لكن هذا شيء، والسعي لنشر العدل ومكافحة الظلم ونصرة الطبقات المسحوقة والمظلومة شيء آخر.
الحرب والعنف، جراء أية مواجهة عقدية، سيبقى إذن هو الامكان الاكثر سوءا على الاطلاق، لكنه ليس هو الامكان الوحيد، فمواجهات كهذه قد تسفر عن خلاف فكري منتج، فلو توافقت عقول البشر دوما لكان ركودها وكسلها هو الطابع الطاغي عليها. إن وراء كل نتاج فكري خلاف فكري يستفزه ويبعث الروح في دوافعه. ولولا هذا لما أنتج العقل البشري حكمة يعتد بها، لما عرفنا الاخلاقيات الكبرى في البوذية والكونفوشيوسة والطاوية، ولما ظهر شيء من الفكر الفلسفي المعمق في مدارس اليونان المتنازعة، ولما تفتقت عبقرية مفكري الاسلام عبر العصور، ولما تعلمنا شيئا من عمق اللاعنف النبيل عند غاندي، ولما ظهرت مبادئ المساواة في الاديان السماوية أو في النظريات الاشتراكية، ولا مبادئ الحرية وحقوق الانسان في الديموقراطية. اذن الكشف والابداع والتجديد هو الامكان الاخر لأي صدام ايديولوجي أو ثقافي، وهو الامكان الافضل حين يكون العنف هو الامكان الاسوأ على الاطلاق. وهناك بين الاثنين امكانات وسيطة اخرى، يقترب بعضها من خيار العنف ويمده ببعض مقوماته، ويقترب بعضها الآخر من الابداع الفكري فيعضده أو يتوكأ عليه. ولكل واحدة من هذه الخيارات والامكانات من الأهمية ما يستدعي مراجعات نقدية جادة ومتجددة.