عراق الدولة بين يسر الولادة وعسر الصيرورة

آراء 2021/09/01
...

  ا.د.عامر حسن فياض 
كثرت توصيفات الوحدات السياسية بعد (هيجل) عندما فجر اطروحته عن الدولة مؤكدا انها (معطية من معطيات الحداثة)، بينما الوحدات السياسية وسلطات ادارتها خلت قبل عصر الرأسمالية الصناعية، بشكل واضح، في تسمياتها وتوصيفاتها من مفردة الدولة لتسمى دولة المدينة عند اليونان القدماء، ودولة الممالك او المملكة او الامبراطورية في العصور القديمة ايضا والوسطى وما بعدها، ودون المملكة او الامبراطورية كانت وحدات سياسية صغيرة تنعت بتسمية الولاية او الامارة او الحاضرة.
على ارض اسمها العراق عرفت هذه التسميات للكيانات السياسية التي احتضنها على مر سني عمره من دويلات مدن الى ممالك وامبراطوريات وحواضر وولايات وامارات، ولم يولد مشروع دولة العراق الحديثة الا على يد الامير (فيصل بن الحسين)، الذي يعد بإذن من الارادتين العراقية والبريطانية القابلة المأذونة لولادة مشروع الدولة الحديثة في العراق. 
ومن دون الخوض في ملابسات الصراع والجدل والتنازع بين الارادتين وبين حالتي التجزئة والتوحيد وبين الهوية السياسية العراقية والهويات غير السياسية الفرعية، فأن الوليد الذي كانت ولادته ميسرة مر بمسارات متعثرة للفترة ما بين اعلان ولادته في 23 اب عام 1921 وصولا الى يومنا هذا، فاستحق بامتياز لقب المشروع الحلم في الامنيات ولقب المشروع، الذي لم يكتمل البناء بعد على ارض الواقع بسبب كوابيس مرارته حتى اليوم. 
اذن نحن نحتفي بمرور 100 عام على ولادة حلم دولة لم يتحقق بعد، وعلى انطلاق مشروع بناء دولة حديثة وليس بمرور 100 عام على صيرورة ووجود دولة حديثة. وبين حلم الولادة وكوابيس البناء، علينا أن ندرك تماما ان عملية البناء هي مسارات لا قرارات وهي عملية تحضير عناصر ومستلزمات لا ينبغي ان تتحكم بها رغبات او نزوات، وهي عملية صيرورة صبورة ومتفاعلة لا عملية لحضوية مستعجلة ومنفعلة. 
ومن اجل تحقيق حلم الدولة في العراق ينبغي مغادرة الوهم الذي شاع بأن العراق دولة اكتمل بناؤها على يد الملكية وتكامل تجديدها على يد الجمهوريات المتعاقبة وتواصلت حداثتها بعد التخلص من الجمهوريات الشمولية عام 2003. بل ان هذا الحلم الذي نطمح اليه كان وما زال مشروعا انحرفت مساراته وتقطع تواصل بنيانه وكثرت اعوجاجاته وتكاثرت عقباته وتسارعت تراجعاته. 
إن سؤال الدولة في العراق بفتح شهية العقول للتفكير بالمستقبل اكثر من التفكير بما مضى وانقضى او بما صار وكفى، فلا مكان لدولة في المستقبل ما لم تجد الوصول الى ربوع الاكتفاء الذاتي النسبي في انتاج الغذاء والدواء والمعرفة لشعبها، فمتى سيتعافى العراق ويغادر عسر صيرورة دولته المنشودة التي اعلن عن ولادتها قبل قرن وربما سيزيد؟ ومتى سيتم اصلاح وتقويم اعوجاجات مسار الصيرورة والبناء وقسوتها وتشوهاتها عبر عهود الملكية والجمهورية؟ ومتى سيتم انقاذ العراق من الغرق في عشق الفوضى الخانقة للحريات والمشجعة لانفلات السلاح؟. 
في الاجابة على سؤال الدولة المغادرة لعسر الصيرورة ومرارات البناء ليس العبرة بما كان ولا العبرة بما هو كائن بل العبرة بالاتي، والمقارنة غير المجدية ولا نفع فيها بين الماضي الملكي والحاضر الجمهوري بصدد موضوع بناء الدولة او تدميرها، لانها مجرد حديث توق لذكريات نستولوجيا مضت بلا رجعة وحديث وجع بمرارات حاضر، لا تخدم بناء الدولة في عراق لا يستحق ماضيه بذكرياته تلك وبمرارات حاضره هذه، بل يستحق مستقبلا افضل منهما. 
من يتطلع الى مستقبل افضل منهما عليه ان يغادر عشق ذكريات الماضي من دون كراهية، ويعالج مرارات الحاضر من دون يأس منه وحنين لما قبله لنشتغل تفكيرا وعملا بالمستقبل. 
اي دولة نريد للعراق؟ هل دولة قوية؟ هل دولة ديمقراطية؟ هل دولة رفاهية وتنمية مستدامة؟ هل دولة مؤسسات وسيادة قانون؟ هل دولة تبعية تستقوي بالاجنبي الاقليمي او الدولي؟ 
من دون أدلجة وعقائديات نستطيع ان نتطلع الى بناء دولة حديثة عناوينها ومضامينها تقوم على حكم المؤسسات وسيادة القانون وسيادة قرار سياسي مستقل وحريات وحقوق مضمونة دستوريا ومنظمة بالقوانين وممكن ممارستها بالمأسسة ولكن كيف؟. 
الكيفيات لبناء دولة حديثة تحتاج الى رسم خارطة طريق صحيحة تتمايز عما قبلها من خرائط اولا، ولا تتأسس الدولة المرجوة وتكتمل صيرورتها وتستقيم مسارات تشييدها دون (كرسته واسطوات بناء). اما الكرسته فأنها تتوزع بين افراد مواطنين تنتجهم مدارس المواطنة والمواطنية (مواطنون لا رعايا لراع ولا اتباع لمتبوع ولا زبائنية لحكومات تسلطية). 
وتتوزع بين جماعات عصرية تنتجهم مدارس التعددية السياسية (احزاب ومؤسسات مجتمع مدني) التعدديات التقليدية غير السياسية (قوميات عنصرية – طوائف دينية تعصبية متطرفة – العشائر – الأسر – الجماعات المنحازة مناطقيا). 
وتتوزع بين مخرجات تنتجهم مؤسسات سلطة سياسية شرعية قائمة شرعيتها على القبول بالرضا الشعبي التمثيلي الانتخابي، وعلى استمرار قبول الشرعية بالمنجزات المتحققة للشعب. 
اما اسطوات بناء الدولة فأنهم بناة يطلق عليهم رجال دولة يبزون من مدارس المواطنة والمواطنية كأفراد، ومن مدارس التعددية السياسية العصرية، ومن مؤسسات السلطة السياسية الشرعية. وكيما يستحق هؤلاء الاسطوات البناة لقب رجال دولة ينبغي ان يتحلوا بالمواصفات الآتية:  
- حملة وعي تكميلي تفكيرا وسلوكا لا وعي تصغيري عند توليهم مراكز ادارة الشأن العام.
- موضع رضا وقبول شعبي غير مستنبتين قسرا في مؤسسات السلطة والنفوذ.
- تفاعليون لا انفعاليين في التفكير والسلوك. 
- يتمتعون بثقافة الاستقالة لا بثقافة الاستطالة حالة فشلهم او افشالهم عند تولي المناصب العامة. 
- لديهم اقرار وقبول بالمعارضة يقبلون من يعارضهم ويقبلون ان يكونوا معارضين اي يتحلون بثقافة المساندة والمعارضة في التفكير والسلوك. 
- يدركون ان معرقلات بناء الدولة الحديثة المرجوة للعراق هي (العجز الخدمي – العوز التشريعي – العقم الانتاجي – العوق المؤسساتي – العمى بالاولويات – العبث بالمال العام والامن العام – العرج المعرفي – عشق الاستقواء بالاجنبي). 
- عدم التفريط بالاولويات. ووعي ان الاولوية الاولى لبناء الدولة هي الاعتماد على الذات العراقية اولا ثم على الذات العراقية وغير العراقية ثانيا وثالثا ورابعا...الخ. 
من كل ما تقدم نخلص الى القول ان عملية البناء واعادة البناء الدولتي هي عملية مسارات لا قرارات، وهي عملية صبورة لا مستعجلة وهي عملية ارادات لا رغبات ونزوات وهي عملية عقول لا عواطف، وهي عملية للمستقبل لا للماضي ولا للحاضر، فعلينا ان نستحضر الماضي لكي نغادره لا لكي نعيش فيه ونعتاش عليه، وعلينا ان نغادر مراراته كيما لا تصبح ذكريات التوق لما مضى بديلا مستقبليا عن هذه المرارات، فأن عشقنا المستقبل سنسجل ذكريات ماض اجمل للأجيال المقبلة.