تدرّب على التذوّق

آراء 2021/09/07
...

 عطية مسوح
الحق والخير والجمال.. هذا الثالوث الذي تتداخل أطرافه وتتكامل، كان على الدوام أحد أبرز قضايا الفلسفة منذ أن نشأ التفكير الفلسفي وبخاصة بعد أن ظهر الفلاسفة المتخصصون. 
وقضايا الحقّ والخير والجمال، كغيرها من القضايا الفلسفيّة (الوجود، المعرفة، الحرّيّة، الواجب، الألم...)، هي نسبيّة، تتباين مفاهيم الناس عنها وتتنوّع زوايا نظرهم إليها وإلى ما يتفرّع منها، كما تتفاوت درجات اقتراب الباحثين من إدراكها.
وإذا كانت هذه النسبيّة عامّة، تشمل كلّ المعارف وتظهر في معالجة كلّ القضايا الفلسفيّة، فإنّها تتعاظم وتبدو على أشدّها في معالجة الحقّ والخير والجمال. ويعود ذلك إلى أنّ الجانب القيميّ في أطراف هذا الثالوث أكبر منه في القضايا الأخرى من جهة، وإلى أنّ مصالح الناس المباشرة تؤثّر تأثيراً كبيراً على رؤيتهم للحقّ والخير والجمال من جهة أخرى. 
وثمّة فرق كبير آخر بين ثالوث الحقّ والخير والجمال والقضايا الفلسفيّة التي ذكرناها. فالوجود والمعرفة وغيرهما هي مواضيع لعمل الفلاسفة والباحثين في المجالات الفكريّة والفلسفيّة، أي للمتخصّصين، أمّا الحقّ والخير والجمال فهي مواضيع أكثر شعبيّة وأشدّ التصاقاً بالإنسان العاديّ والحياة اليوميّة، أي إنّها مجال نظر وتفكير للناس جميعاً، فما من عاقل لا يملك رأياً فيها، وما من شخص لا يقول: هذا حقّ وهذا باطل، هذا خير وهذا شرّ، هذا جمال وهذا قبح، مع هامش واسع لظهور النسبيّة التي أشرنا إليها، والتي قد تبلغ حدّ التناقض، فما يراه شخص ما حقّاً أو خيراً أو جمالاً قد يراه الآخر عكس ذلك. وهذا أمرٌ مألوف ولا أحد يستطيع الجزم بأنّ ما يراه هو الصواب.
غير أنّ النسبيّة لا تعني وضع عناصر هذا الثالوث في فضاء غائم لا معايير فيه، أي إنّها ليست نسبيّة مُطلقة، إذ إنّنا نجد في الثقافة الإنسانيّة قيماً متّصلة بالحقّ والخير والجمال، وهي قيم تكوّنت ورسخت عبر العصور، واحتضنتها الفلسفة ورعتها منذ بدايات التفلسف. فمعظم الناس يرون أنّ العدوان باطل وشرّ وقبج، وكذلك القتل ونهب ثروات الآخرين شعوباً وأفراداً، واستغلال جهد الإنسان لغير فائدته، ومصادرة حقّ الإنسان في التفكير والتعبير، وتضييق مساحات حريّة الرأي والفعل الذين لا يؤذيان أشخاصاً أو جماعات، ومحاولة طمس الشخصيّة، وغير ذلك من الأفعال المشابهة، هي كلّها باطل وشرّ وقبح، بينما السعي لإزالتها هو حقّ وخير وجمال.
وللنسبيّة على المستوى الفرديّ جانب آخر، وهو متعلّق بعنصر الجمال بخاصّة، إنّه التذوّق. فالجمال موجود حول الإنسان، ويكاد ينتشر في كلّ مكان وكلّ شيء، وعلى الإنسان أن يتلمّسه ويكتشفه، عليه أن يعرف كيف يراه، ويتذوّقه وينعم به.
قلنا في البداية إنّ عناصر هذا الثالوث الفلسفي متداخلة ومتكاملة، ولو دقّقنا في النظر لوجدنا أنّ عنصر الجمال هو الذي يشكّلّ الرابط الفلسفيّ بينها، فالحقّ جميل والخير جميل، بل يمكن أن نعمّم أكثر فنقول إنّ الجمال هو القضيّة الفلسفيّة الأكثر شمولاً، فللمعرفة جمالها وللحرّيّة جمالها، بل إنّ للتفلسف جماله أيضاً.
انطلاقاً من ذلك يمكن القول إنّ أهمّ ما يسعى إليه الإنسان هو تجميل حياته على هذه الأرض. وبالتالي، فكلّما ارتقت ذائقة الإنسان الجماليّة غدت حياته أمتعَ وأنفع، واغتنى روحيّاً، واتّسع نطاق حبّه، فبين التذوّق والحبّ علاقة جدليّة، علاقة تلازم وتبادل، إذ إنّ تذوّق المرء مواضعَ الجمال في شيء ما يجعله يحبّه، وحبّه إيّاه يجعله أقدرَ على تلمّس جمالياته. 
ولأنّ غرض الإنسان هو تجميل حياته، ولأن الجمال الذي يسعى إليه لا ينفصل عن الإحساس به، فإنّ التذوّق هو أهمّ خصلة يتحلّى بها المرء، تذوّقُ الجمال المنتشر حوله، وتمييزُه من القبح، فالتذوّق هو مفتاح المتعة والسعادة، وكم سيكون المرء تعيساً إذا حُرِمَ من نعمة التذوّق أو ضعفت لديه هذه الملَكَة النفيسة!
ولهذا الضعف أو الحرمان عاملان، فثمة عامل اجتماعي، يعود إلى علاقات الاستغلال والظلم التي تحشر قسماً كبيراً من الناس في بؤرة البؤس المادّيّ، وتجعل سعيهم إلى لقمة العيش غاية الغايات، وتضيّق نطاق اهتماماتهم الجماليّة، وتُضعِف ذائقتهم. وقد يسعى بعض هؤلاء إلى تغيير هذا الواقع الاجتماعيّ ويناضلون من أجل العدالة، فيجدون في سعيهم ونضالهم جمالاً يعوّض جزءاً مما حرموا منه. 
وثمّة عامل ذاتيّ، فكثيراً ما نرى أناساً لا يهتمون بذائقتهم ولا يأبهون بما حولهم من آيات الجمال وصور الإبداع في الطبيعة والبشر والثقافة والأشياء، فيجد القبح في نفوسهم مرتعاً، ويفقدون نعمة التذوّق شيئاً فشيئاً، فلا يستمتعون بآيات الجمال المحيطة بهم، أي إنهم ينفقون العمر هباء. 
إنّ بذور الذائقة الجماليّة منثورة في نفس كلّ إنسان، وما عليه إلاّ أن يرعاها وينمّي نبتاتها بالتدرّب والمران، فتذوّق الجمال ينمو، يتعلّه الإنسان ويدرّب نفسه عليه، ويمارسه حتى يتمرّس به. وسيكون المرء أكثر نفعاً حين ينقل إحساسه بالجمال إلى الآخرين، ويسهم في تنمية ملكة التذوّق لديهم، ولعلّ تدريب القرّاء والمشاهدين على اكتشاف الجمال في الأعمال الأدبيّة والفنّيّة، ورفع مستوى تذوّقه والتفاعل معه، هما مهمّة النقّاد الأولى والأكثر فائدة. 
 
 كاتب وباحث من سورية