عصور الأدب والتأثيرات السياسيَّة

منصة 2021/09/07
...

 د.عبد الخالق حسن
لعلَّه من البدهي أنْ يخضع الأدب وتصنيفاته الزمنية إلى تأثيرات سياسية واجتماعية وفلسفية، بل إنَّ هذا الأمر يكاد يكون سمةً ملازمةً للأدب حتى مع دعوى التحرر من الضغوط الخارجية، التي ينادي بها اليوم المنشغلون بالأدب كتابةً ونقداً.
ولا نغالي إذا ما قلنا إنَّ الأدب العربي، قديمه وحديثه، قد خضع بشكل كبير إلى المزاج السياسي والاجتماعي في مسمياته التي جرى في ضوئها رسم حدوده الزمنية سابقاً وحاضراً. ومن بين المسميات الزمنية التي ما زالت تمثل إلى اليوم مبعث خلاف بين جمهور النقاد والباحثين هو مسمَّى (العصور المظلمة) في الأدب، التي يُعبَّر بها عن المرحلة التي تلت سقوط بغداد سنة ٦٥٦ هجرية. مبعث الخلاف يأتي هنا من كون هذه المرحلة شهدت الكثير من المنجزات الأدبية، التي تمثلت بمؤلفات مهمة في جميع حقول اللغة والثقافة، وهي أكثر من أن نحصيها أو نعدها. يكفي هنا أن نشير إلى مقدمة ابن خلدون في كتابه الذي ذاعت مقدمته (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر)، وكذلك كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) ومؤلفات السيوطي وغيرها الكثير. فضلاً عن الدواوين الشعرية المهمة والكتب النثرية في جانبها الفني والنقدي. وفي جانب آخر، فتحت هذه المرحلة من عمر الأدب باباً إلى التطور والتحديث في الأشكال الشعرية، التي مثلت انتقالةً مهمة فتحت الباب بعد العصر الحديث إلى كسر حدود النمط الشعري العمودي والذهاب نحو قصيدة التفعيلة، وصولاً إلى قصيدة النثر، وكل هذا رافقه نزوعٌ نحو استعمال الأوزان الشعرية المبتكرة، التي لم تكن معروفة سابقاً. من بين هذه الأشكال نذكر هنا (القوما. الكان وكان. الدوبيت. البند الذي يكاد يكون أقرب الأشكال الشعرية لقصيدة التفعيلة).
لهذا فإنَّ إطلاق مسمَّى العصور المظلمة على هذه المرحلة الأدبية، يبدو متأثراً في جانب كبير منه بالوضع السياسي العام، الذي نظر إلى الأمر من جانب خروج السلطة من يد العباسيين على يد المغول، ومحاولة محو كل منجز إبداعي خارج إطار السلطة. أي إنَّ الموضوع هو سياسي بحت لا يتعلق بالجانب الإبداعي قدر تعلقه بالتأثيرات السياسية. وهذا دأب اتباع السلطة في كل وقت حين تذهب منهم هذه السلطة، فتجدهم يروجون دوماً لفكرة أفضلية زمنهم على الزمن اللاحق، الذي فقدوا فيه سلطتهم، وشاهدنا هنا هو ما حصل في العراق بعد ٢٠٠٣ حين حاول أتباع السلطة السابقة ترسيخ فكرة غياب الإنجاز عن سلطة ما بعد ٢٠٠٣.
لهذا، فإنَّ تسمية العصور المظلمة تبدو مجحفة وقاسية وغير موضوعية. بل إنَّ تسميات (العصر الوسيط. أو العصور المتأخرة. أو عصر ما بعد سقوط الخلافة العباسية) هي الأقرب للواقع والأصدق تعبيراً والأكثر دلالةً على هذا العصر الأدبي المهم.