النكوص الديمقراطي

آراء 2021/09/07
...

  ا.د عامر حسن فياض 
بدأت الديمقراطية بثوبها الليبرالي مع عصر النهضة الاوروبي وما انتج من تحولات لم تتقيد في بعد واحد، بل بأبعاد مجتمعية متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية.
فعلى الصعيد السياسي بروز فكرة العقد الاجتماعي المقيد للسلطة المطلقة ومرجعيته المفكر الانكليزي جون لوك القابلة المأذونة للديمقراطية الليبرالية القائمة على أطروحة التمثيل المقترن بالضرائب، فلا ضرائب بلا تمثيل، وعلى الصعيد الاقتصادي اقترن هذا البعد بالاقتصاد الحر غير المقيد بما في ذلك حرية البحث عن الموارد، كذلك البعد الاجتماعي المتمثل بالاستناد الى الحامل السوسيولجي الاجتماعي السياسي (الطبقة الوسطى) للديمقراطية الليبرالية نتاج سقوط الطبقة الارستقراطية وسلطة الملوك المطلقة لتقوم في ما بعد بشراء الوظائف. 
اما البعد الاكثر تأثيرا والاصعب تحقيقا هو البعد المتعلق بالفكر من خلال احياء التعرف على المخطوطات اليونانية واجادة اللغة الاغريقية، بعد ان كانت اللاتينية هي المهيمنة وهذا الاحياء مكن عقول عصر النهضة من تبني منهجية تفكير جديدة تبتعد عن المنهجيات السابقة لها، لترتفع العقلانية وتحل بدلا من السلطة اللاهوتية، الامر الذي تكلل بالاصلاح الديني توازيا مع رفعة النزعات الفردية والعقلانية والعلمنة لتكون حاملا فكريا وثقافيا ثلاثيا للديمقراطية الليبرالية تفكيرا وسلوكا.
ومثلها مثل كل اطروحة حيث تعرضت الديمقراطية الليبرالية الى تحولات صعود وهبوط، تقدم وتراجع، مناهضة ومناصرة حتى يومنا، لتظل هناك اهمية للبحث في مستقبلها خصوصا مع سيل الانتقادات الموجهة اليها ومن خلال التجارب الديمقراطية في انحاء عديدة من بلدان العالم، لا سيما في دول الغرب. وخلاصة مخرجات هذه الانتقادات تشير الى التشكيك بقيمتها الاساسية، لا سيما قضايا المشاركة والحرية وقيم اخرى. 
ويمكن بهذا الشأن الاستناد الى ارقام و وثائق احصائية لبيان حجم هذه الانتقادات على صعيد الواقع في الغرب. وكذلك لا يمنع ذلك من توارد الانتقادات لهذه الافكار وهي تتبدى، خصوصا مع المهاجرين عند جماعات وافراد النزعات المتطرفة ازاء المهاجرين لحرمانهم من الحقوق، لا سيما بعد انتشار الاسلاموفوبيا. 
وكل ذلك كان دافعا لظهور ارتدادات فكرية وحركية اهمها الحركات الشعبوية في الغرب وامتدادها الى الشرق والتي ظهرت كتعبير عن اليأس والقنوط من التطبيقات الديمقراطية الليبرالية التي لم تؤمن تأمينا عادلا للحقوق، ونزوعها نحو النخبوية، الامر الذي مكن ودفع الى التحفيز والدعم للحركات الشعبوية حتى بلغت عتبة البيت الابيض مع ترامب، مع الاشارة الى ان هذا النكوص الديمقراطي قد ارتد ليكون الداعي لتأمين وسهولة ظهور الحركات الاصولية وانتشارها، كالنار في الهشيم. 
إن الانتباه وبيان الملاحظات النقدية للديمقراطية الليبرالية فكرا ونظاما، هي سنة علم ومنهج معرفة للتقييم او التطوير او التكميل ليس الا، ويبقى الاصل لحرية الحوار واستمراره كراية حق وصولا للكمال على الارض.