التغيير وهيمنة الانساق الثقافية

آراء 2021/09/09
...

  حسن السلمان 
 
لقد افرزت ثورات ما يسمى بالربيع العربي الكثير من الدروس والعبر على مستوى معرفة تحكم الانساق الثقافية بالمجتمعات، ومدى قدرتها على تقبل التغيير الفعلي سواء على مستوى نظام الحكم أو الصورة الجديدة للحياة الاجتماعية، التي تتوافق مع طبيعة نظام الحكم بعد التغيير. لقد اثبت النسق الثقافي بوصفه أسلوباً شاملاً للحياة أو منظومة من الموجهات الأيديولوجية الغائرة في أعماق اللاوعي الجمعي لمجتمع ما فاعليته على رفض وعرقلة كل تغيير يتعارض مع ثوابته وميوله ومحدداته الفكرية، وكل ما يتعلق بتشكيلاته الحياتية من اعرافٍ وسننٍ وتقاليدَ وانماطٍ حياتيةٍ قارة. فعلى سبيل المثال، إن مجتمعاً قبلياً صحراوياً مثل المجتمع الليبي، فشلت ثورته التي أطاحت بنظام القذافي الدكتاتوري وإقامة نظام ديمقراطي بسبب تحكم نسق العصبية القبلية وانحيازاتها لينتهي الحال بالشعب الليبي إلى التشرذم والاقتتال الأهلي وفتح الباب مشرعاً أمام التدخلات الخارجية، وجعل البلد مرتعاً للحركات الإرهابية والمرتزقة والميلشيات المتناحرة. والأمر ذاته ينطبق على ما حصل في سوريا عندما طفح النسق الثقافي الطائفي والمذهبي على السطح السوري، وأحال البلد إلى ركام ورماد ومآسٍ عندما اندلعت ثورتها المعارضة لنظام الحكم القائم على هيمنة الحزب الواحد في بدايتها. وإذا ماتجاوزنا المحيط العربي وثوراته الشعبية {الربيعية} وأخذنا النموذج الافغاني وقدرته على التغيير، مع الأخذ بالاعتبار المسببات والدوافع التي تختلف عن اسباب ودوافع ثورات {الربيع} العربي، يتضح جلياً أن ما قام به التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الاميركية بإقامة نظام حكم ديمقراطي في افغانستان، وعلى مدى عشرين عاما بعد حربه على القاعدة وطرده لحركة طالبان، قد ذهب أدراج الرياح، فها هي طالبان تعود إلى الحكم من جديد مدعومة بأنصارها وجماهيرها وزخمها القبلي، والكثير من شرائح المجمتع الافغاني، الذي لم يهضم ديمقراطية أميركا والغرب، بحكم مهيمناته النسقية الدينية والثقافية وصعوبة تغيير اسلوبه الحياتي. بينما وعلى الرغم من تحول الربيع إلى {خريف} بعد وضوح الصورة في تونس ومصر عبر هيمنة أحزاب الإسلام السياسي على السلطة، حيث هيمنة الإخوان المسلمين في مصر وحزب النهضة في تونس، استطاع الشعبان وباسناد ومعونة من القوى المدنية والمؤسسات الأمنية ذات العقيدة الوطنية من تصحيح المسار، وإعادة شيء من الاعتبار إلى "ربيعهما" وما كان ذلك ليكون لولا بنية مجتمعيهما المدنية المتخففة من أعباء وهيمنة الانساق الثقافية المتحكمة بمجرى الأمور، كالنسق القبلي والمذهبي، إذ إن كلا من بنيتي المجتمعين المصري والتونسي لاتقومان على القبيلة ولا على التعددية العرقية أو المذهبية.
ما تقدم، وعطفاً على الامثلة المختارة التي ضربناها آنفاً، يتضح بشكل لا يقبل اللبس إن أي تغيير فعلي لا يمكن أن يتحقق في مجتمع ما دون أن يكون ذلك المجتمع مستعداً نفسياً وفكرياً، وذا قدرة على تجاوز محددات انساقه الثقافية الصلبة التي لا تسمح بمرور هواء التغيير، وأن ما نراه من تغيير لا يعدو أن يكون تغييراً شكلياً لاعلاقة لهُ بما تعنيه حقيقة كلمة تغيير، وبعبارة أخرى، أن بذرة التغيير لكي تنمو وتعطي ثمارها بحاجةٍ إلى تربة صالحة وإلا فسيكون مصيرها الموت حتماً.