وجدان عبدالعزيز
الكاتبة أزهار علي، حياة استثنائية في تقلباتها وموهبة كتابة حباها الله بها، كانت الكتابة عند ازهار المتنفس النفسي والاجتماعي والفكري، الذي مارست فيه فعالية نشاط الوعي وما تحمله من تطلعات، نحو أفق معرفي بات يتنامى من خلال استمراريتها في الفعل الثقافي ومنه فعل السرد والقص، وامامي مجموعتها القصصية الصادرة حديثا (مصابيح) عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق، وضمت (13) قصة قصيرة.
ربما يكون مصطلح الزمن الأعصى على التعريف، فالزمن أمر نحسّ به، أو نقيسه، أو نقوم بتخمينه، وهو يختلف باختلاف وجهة النظر التي ننظر بها، بحيث يمكننا الحديث عن زمن نفسي، أو زمن فيزيائي، أو زمن تخيلي، وحتى نكون مع مسارات الكاتبة ازهار علي، نلجأ الى معالجات المفكر كانط، فهو يستنج بأن الزمان خارج الذات، لانه ليس موضوعا متحققا، اي يضع له وجودا موضوعيا، ويضعه كشرط قبلي لفهم الظواهر، فالاحداث لا تفهم الا من خلال زمنها، ويقول الدكتور «عادل بدر»، وهو كاتب مصري: «عنصر الزمن يدخل في آليات البناء الخاصة بأجناس الأدب، فالأدب فن الزمان وليس المكان، لأنه عنصر جوهري وأساسي في فن القول، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً به. يرى كانط: (ان المخيلة تمتاز بخاصيتين: أولا هي حسية طالما أن الصور التي تمدنا بها قائمة دائماً في الزمان والمكان، وثانياً تلقائية إبداعية طالما تستطيع مطابقة أولية للمقولات)، وهنا بقيت الكاتبة ازهار علي في حلقات زمنية متداخلة باحثة عن الحقيقة، وكأني بها تتساءل دوما عن وجودها الموضوعي كذات تحاول اكتشاف المحيط من حولها، من خلال تحولات ماضية وحاضرة ومستقبلية في قصصها، و»لأن المخيلة عمل باطني، فلا بد أن تتخذ صورة الحس الباطن نفسه، أي صورة الزمان والمكان، ولا بد من وجود حدس الزمان، كي تتمكن من أن ترسم أطرا تندمج فيها الظواهر»، ففي قصة دعبل جاء النص التالي: «حدث ذلك منذ سنوات بعيدة ضائعة، سنوات مضت وقد ألبست براءة طفولتنا سواد مصائبها الفاحم، ورغم ذلك، فمازلت وحتى مرور ثلاثة عقود من الزمن، اقف عالقا امامها، أمام كرات زجاجية ملونة تتوهج مبتهجة بضوء الشمس، تضربها اصابع صبي كان الشاهد الوحيد على حكاية تتغير ألوانها وتتلوى، كلما قلبها بين اصابعه، دعبلات صغيرات مثل ايامي التي غابت في براءة، لم تستثنها المأساة»، حيث دمجت وحدات الزمن في هذه الاسطر، وراحت تتصاعد مع الحدث، لترسم معاناة سنين ماضية من قمع متكرر. ولا تقبع الكاتبة في مأساة الذات، انما تخرج الى معاناة الناس، اي تخرج من الذاتي الى الموضوعي، حيث الموت لا يستثني صغيرا أوكبيرا، وحرب غزو الكويت وخسائر العراق فيها اللا محدودة، ومن ثم انتفاضة الجنوب والمقابر الجماعية، حيث «الموت يتجول عاريا» والحصار الاقتصادي اللعين، ثم اردفتها بقصة «مصابيح»، التي حملت عنوان المجموعة، كون هذه القصة حملت حكايتين: حكاية تشكلت داخل ذات البطل نفسه، والاخرى حكاية تحديد الملامح، فالملامح تعكس دواخل الانسان، ولعبت الكاتبة لعبتها الزمنية، فابتلعت مسافات زمنية مغمسة بمآسٍ كثيرة، لتصل الى احداث سقوط الصنم وما عقبها من القتل على الهوية ودخول شذاذ الحركات المتعجرفة والظلامية، كما في داعش، ونرى في هذه القصة سخرية الكاتبة ازهار من فتوى المرحاض الشرقي وتحريم المرحاض الغربي، كما في النص التالي: «واخرجته مقعد مرحاض غربي، حملته بين يدي بحرص، ثبته اخيرا فوق المرحاض الشرقي، كان عليّ ان اتغوط بصوت عال وبقوة فوق الغربي والشرقي معا،. وفي قصة «دثار الغياب» يبدو ان كل شيء ليس من حق الانثى، حتى رغباتها، «واخيرا تنسحب من تحته، تتكور تحت غطاء لا يجمعهما معا، في محاولة هرب يائسة»، فحتى الحالة الجسدية الجنسية، هي اسقاط واجب تجاه زوج، قد لا يكون هو المرجو في تكافؤ الفرص الحياتية، فـ «كل مرة كان جسدها يذبل، متمردا على رغبته»، وهنا يتصاعد توهج الرفض، لترسم الكاتبة لوحة المأساة في حياة الانثى المستلبة، «كانت يدها تثير قشعريرة اللذة في بدنها، وهي تتحسس سخونته الدافقة، وتترامى على اصقاع خرائطه المدفونة، بينما ألمٌ جارح يخز براءتها»، فهي تعيش اسيرة الزمن والقمع الاجتماعي عبر بروكتولات يفرضها عليها المجتمع خارج معطيات الحب والعاطفة، حيث تردد الكاتبة في قصة «الشتاء العتيق»: «أن ملامحي، أنا نفسي بكل نحسي، قد تكون مثل ملامح امي»، ورغم هذا فان الكاتبة ازهار ترفض المهادنة والرضوخ، لتعلن في قصة «أنا على رقعة الشطرنج»، «وفي جنوحي لتجنب الخسارة، طورت لعبتي بطريقة أتهمت بالجنون لممارستها، اعلن الرقعة امام المرآة، واشطر نفسي عدوين متحاربين...)»، «والنهاية موت ونصر، وها قد غدوت في قمة السعادة»، وهكذا يبقى الانسان يبحث عن السعادة، ويتحرّى طُرقها وكيفيّة تحقيقها، ويبذُل كلّ وسعه في ذلك، ساعياً بكلّ ما لديه من عقلٍ وفكرٍ ومادّة لإيجادها، لكنّها تَبقى سرّاً لم يدرك ماهيّته إلّا القليل؛ فهي شُعورٌ داخليّ يَشعرُ به الإنسان ليمنحه راحة النفس، والضمير، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب. وتبقى الكاتبة ازهار علي في مجموعتها (مصابيح) تبحث بمشقة عن الحقيقة وماهية الحياة، وماهية السعادة، لتصل الى انها حالة نسبية تتكور في لحظات امتلاك الذات وتوجيهها في طريق مرجو.
هامش:
ـ مجموعة (مصابيح) للكاتبة ازهار علي/ اصدار الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق ـ بغداد الطبعة الاولى 2020م