انتخابات العراق والمواقف الداخليَّة والإقليميَّة منها

منصة 2021/09/12
...

  د. عبد الخالق حسن
  تصوير: علي الغرباوي
كانت لحظة 2003 التي سقط في إثرها النظام الدكتاتوري في العراق لحظة فارقة في تاريخ العراق والمنطقة. ربما هي اللحظة الأهم منذ ظهور العراق بشكله الجديد بعد سنة 1921. نقول هذا ولا نغالي أو نحاول تضخيم الحدث، بل إن الواقع الذي ترتب عليها لاحقاً أثبت أن معظم إن لم تكن جميع التغييرات الجوهرية في المنطقة كانت بتأثير تلك اللحظة المهمة تاريخيا وحاضراً ومستقبلا.
 
سقوط الدكتاتور
مثلما هو معروف، فإنَّ المواقف الإقليميَّة عاشت في دوامة من الصدمة بعد سقوط النظام الدكتاتوري، ليس لعدم توقعه بل بسبب سرعة هذا السقوط، لكن لحظة الصدمة تمثلت بما يشبه الزلزال الذي تبعته هزات ارتدادية. وأخطر من الزلزال كما يقول علماء الجيولوجيا هي الهزات، التي تأتي لاحقاً؛ لأنَّ تأثيراتها تكون أعمق بسبب هشاشة القشرة الأرضيَّة المصابة بحالة الدوار حينها، إذن فما حصل في العراق هو زلزال سياسي تبعته هزات ارتداديَّة سياسيَّة قلبت موازين المنطقة إلى الأبد.
فمن بين دول الإقليم، كانت ايران والكويت هما الوحيدتان اللتان رحبتا بالتغيير واعترفتا به. أما الدول الاخرى فكانت مواقفها متذبذبة، بل وإن البعض منها رفضه، لأنه سيفتح الباب أمام ارتفاع شعور المطالبة بنيل الحقوق، خصوصا في البلدان المتنوعة كتركيا وسوريا والسعودية. أما الاردن فكان إعلانه المبكر للريبة من موضوع الهلال الشيعي هو بمثابة الموقف المحسوم من القلق من التغيير، حتى أن صدى هذا التغيير وصل إلى مصر حين أعلن حسني مبارك وقتها عن كلام مماثل لكلام الملك الأردني، مع اتهامات للأغلبية السكانية في العراق بالولاء إلى الخارج. ليتصاعد الأمر لاحقاً إلى سماح كل الدولة الخائفة من التغيير بصدور فتاوى وبيانات تحريض بل وحتى المساعدة وتسهيل مهمة المقاتلين الاجانب، الذي تكاثروا في العراق ليشكلوا عصابات إرهابية عملت طوال سنوات، حين كانت الدولة لا تزال تنهض قليلاً قليلاً من ركام الحرب والخراب الكبير، الذي ورثته القيادات الجديدة من سنوات الدكتاتورية.
 
الأهم في تاريخ العراق
كانت التجربة الأهم لمرحلة ما بعد الدكتاتورية هي تجربة الانتخابات التي بالرغم كل ما يقال عنها، لكنَّها تظل الانتخابات التمثيلية الأهم في تاريخ العراق الحديث. لأنَّنا هنا نتحدث عن عملية انتخابية تخضع لمعايير دولية حديثة أولاً، وثانياً، كانت الانتخابات أيام الملكية مثلاً تخضع للمحاباة وليس فيها تمثيل حقيقي لإرادة الناس، حتى أنَّ الرصافي الشاعر مثلاً قد أصبح نائباً عن لواء العمارة في انتخابات 1930، وهو الذي يسكن بغداد ولديه مواقف طائفية معروفة كشف عنها في كتاباته. في حين إنَّ الحياة السياسية قد بدأت بالسير نحو الدكتاتورية بعد ثورة 1958، وصولاً إلى الانقلاب البعثي سنة 1968، والذي قضى تماماً على التعددية السياسية، وانفرد بالبعث برسم ملامح هذه الحياة، وبالرغم من محاولاته الظهور بمظهر ديمقراطي يسمح بحصول انتخابات برلمانية، لكن ما نتذكره هنا هو التركيز على اسماء يكتب في صور دعاياتها الانتخابية (مرشح الحزب) بما يعني أنَّ هؤلاء هم الذين تريدهم الحكومة، وفعلاً كان جميع الذين يفوزون في انتخابات (المجلس الوطني) هم مرشحو الحزب. لهذا يمكننا القول بكل ثقة إنَّ انتخابات ما بعد الدكتاتورية هي الانتخابات الوحيدة الحقيقية المعبرة عن رغبات الناس، والدليل أنَّ مكوناً أساسياً ومهماً هو المكون السني قد قاطعها ورفضها في البداية، من دون أن يقدح هذا الأمر في سلوكهم الوطني، ذلك أنَّهم قاطعوها بسبب ظروف موضوعية وذاتية، لكنَّهم لاحقاً التحقوا بها ليعبروا بكل حريَّة عن آرائهم ويختاروا ممثليهم من دون تدخل، وعين هذا الأمر ينطبق في البداية على بعض القوى الشيعية، التي أيضاً اقتنعت لاحقاً بالانتخابات. ربما الموقف الكردي هو الوحيد الذي كان مع الانتخابات منذ أول انتخابات حتى يومنا هذا من دون أيَّة مقاطعة. هذا على المستوى الداخلي، أما المواقف الإقليمية فكانت تراقب نتائج الانتخابات وما تفرزه، لتعلن بعد ذلك في تصريحات رسمية أو غير رسمية موقفها من الانتخابات. في الغالب كانت التصريحات الإقليمية حذرة، وبعضها يشكك أحياناً بما أفرزته الانتخابات، وإن كان التشكيك بشكل غير رسمي، لكن ما كان يخرج في وسائل إعلامها الرسمية وشبه الرسمية يدفع للاعتقاد بأنَّها تشكك في مصداقية الانتخابات، برغم حصولها على مباركات دولية، وبرغم كونها تجري في ظل دعم من منظمة الأمم المتحدة، من خلال البرامج التدريبية أو الدعم المالي أو مراقبة العملية الانتخابية.
 
موضوع الكتلة الأكبر
تأثيرات الانتخابات ونتائجها كان يجعل الكتل الفائزة المعنية بتشكيل الحكومة تتحرك في زيارات إلى كل دول الجوار الإقليمي من أجل استمزاج آرائها، وأيضاً طمأنتها وإزالة مخاوفها. لكنَّ هذا الأمر تسبَّب لاحقاً بفرز للخنادق الانتخابية كان من نتائجه تراشق إعلامي بحصول الكتل المتخاصمة أو المتنافسة على دعم خارجي، وكان الأمر طبيعياً طبعاً في ظل القلق والمخاوف وانعدام الثقة، لأنَّ الفرز الطائفي والقومي كان حاضراً في سنوات التغيير الأولى. نحن هنا نتحدث عن الانتخابات الأولى وصولاً إلى انتخابات 2010 التي وصفتها بعض الدول انتصاراً لحلفائها، حتى أنني أتذكر فرحة صحفها ووسائل إعلامها بعد إعلان النتائج، وفي مقدمة هذه الدول السعودية والأردن وحتى تركيا. لكن بعد تفسير المحكمة الاتحادية في موضوع الكتلة الأكبر، تراجعت هذه الدول عن الدعم الذي وعدت به لأنَّها كانت تنظر بريبة إلى استمرار صيغة الحكومة السابقة، التي كانت تنظر إليها هذه الدول بإسقاطات طائفية واضحة، وبعضها كان يتعامل معها بإسقاطات سياسية.
ومع الوصول إلى انتخابات 2014 التي رافقتها أحداث سيطرة العصابات الإرهابية على مناطق واسعة من العراق، كانت مواقف الدول الإقليمية مرتبطة تماماً بالموقف الدولي، الذي تعامل مع إفرازات الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة، بمنطق جديد دفع الدول الإقليمية تسير مع رؤية التحالف الدولي، الذي كانت تقوده الولايات المتحدة الأميركية وهو دعم العراق بكل السبل المتاحة والانفتاح عليه، وتهدئة الخطاب المضاد له وللعملية السياسية فيه. يمكن القول إنَّ سنوات حكومة ما بعد 2014 كانت أكثر السنوات التي اتفق فيها الخصوم على ضرورة دعم العراق، بالرغم من اختلافاتهم وتقاطعاتهم ووجهات نظرهم غير المتماثلة في الكيفية أو الآلية التي يريدون للحكومة أن تدير بها العراق.
 
انتخابات التحول الكبير
أمَّا انتخابات 2018 فكانت انتخابات التحول الكبير من حيث نوعية الكتل، التي أدارت وشكلت الحكومة، أو ما حصل لاحقاً بعد مرور سنة ونقصد هنا دخول عنصر الاحتجاجات في تشرين على خط التحولات السياسية، والذي كان من نتائجه استقالة الحكومة والذهاب إلى حكومة جديدة تهيِّئ لانتخابات مبكرة، فضلاً عن تغييرات جوهرية في القانون الانتخابي الذي اعتمده مجلس النواب، ليكون هو ميدان التنافس في الانتخابات المقبلة. وهنا يجب أن ننوه إلى أنَّ الحكومة الحالية هي ليست إفرازاً انتخابيا فقط كما هو معتاد دائما، بل إنَّ الرغبات التي ولدت في ساحات الاحتجاج، والتي كان غالبية من فيها هم من فريق المقاطعين للانتخابات، قد تدخلت في تقرير شكل الحكومة ووضع عدد من الشروط والمطالب لتنجزها. أما الموقف الإقليمي، وحتى الدولي، فقد كان متناغماً مع تحولات ما بعد تشرين، ورأى أنَّها تعبير عن رغبة شعبية، حتى أن كانت صادرة عن مواطنين قاطعوا الانتخابات.
إن العملية الانتخابية هي جوهر الديمقراطية، وهي الأساس الذي من دونه لا يمكن بناء البلد، لأنَّ تجاهلها أو التشكيك فيها له آثار سلبية داخلية وخارجية. لهذا فإنَّ الاستحقاق الانتخابي المقبل سيكون حاسماً ومهماً في تقرير شكل البلد في المستقبل القريب، خصوصاً مع الضغوطات التي تتعرض لها العملية السياسية، التي يطالب الجميع اليوم بإصلاحها.
الخلاصة: ليس مهماً من سيفوز بالانتخابات. المهم لدينا هو الاستمرار بالعملية الديمقراطية، التي هي من أهم ثمار ما بعد الدكتاتورية، والتي بقيت مستمرة بفضل التضحيات الكبيرة منذ 2003 حتى يومنا هذا.