د.معتز عناد غزوان
لا شك أن المتتبع لأعمال الفنان الرائد الدكتور صلاح القصب سيجده مسرحياً كبيراً متميزاً، بما يقدمه من أدوات وحيوات افتراضيَّة على خشبة المسرح، تعالج العديد من القضايا الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة التي تمس حياة الإنسان وتحاكي زمكانه المتحول ما بين السكون والحركة، يجد ذلك واضحاً في معظم نصوصه الجماليَّة والتعبيريَّة سواء في المسرح أو التشكيل.
إنَّه صاحب تقنية الصورة ورائدها في المسرح العراقي والعربي، إذ يؤكد القصب أنَّ للبنيَّة الزمكانيَّة علاقة بنيويَّة مع مكونات الخطاب العلاماتيَّة في بصريات العرض، ويتيح للرائي إمكانيات رؤيويَّة حرة أكثر اتساعاً بصرياً، إنها أقرب الى رؤيا التشكيليين عندما تحدق أبصارهم الى هالة ضوء مشع وسرعان ما تغمض العين انتماءً له.
إنَّ التجريب في مسرح الصورة هو خلقٌ لقراءة صعبة لا تعطي دلالاتها بطريقة خطيَّة، إنَّه احتفاءٌ كبيرٌ لحضور الخط الرابط الى حدث يحثّ الغياب على الحضور، ويحثّ الحضور على الجري وراء الغياب.
مسرح القصب
والتأويل البصري
مقولة القصب هذه تعدُّ المفتاح الرئيس لتأويلاته البصريَّة للمسرح الجاد الذي يبحث عن إيجاد حلولٍ وسط الزمكان القلق الذي يدعونا دائماً الى التفكير والتجلي ومحاولة سبر أغوار الواقع نحو هدف سامٍ ونبيل. لقد كانت محاولات صلاح القصب وتجاربه الغنيَّة في المسرح وتقنياته وإخراجه ودراساته المعاصرة، دليلاً على براعته بها حتى ولج نظريَّة الكم في الفن والمسرح تحديداً ليكمل مشواراً بدأه الفنان الراحل محمود صبري في فن الرسم، والتي عدَّها شكلاً من أشكال الفن وبمستوى جديد من الواقع الموضوعي الذي كشفت عنه العلوم والتكنولوجيا، فهو فنٌ يستبدلُ النظرة والفكر الغيبي والسحري بآخر علمي، أو هو فن مجتمع يطلبُ من الفنان خيالاً متحرراً من الغيبيَّة والسحر، إذ تنقل واقعيَّة الكم الوظيفة الفنيَّة بشكلٍ عامٍ من مستوى المظهر الى مستوى الجوهر. لقد كان لتجارب محمود صبري أثرها الواضح في تبني صلاح القصب تطبيق واقعيَّة الكم في الفن المسرحي كحركة وسينوغرافيا وعناصر مسرحيَّة مختلفة في أغراضها وحتى النص المسرحي.
إنَّ اللوحة القصبيَّة الممسرحة التي وضعها صلاح القصب أخذت من منطلقات الكوانتم أو واقعيَّة الكم روحها الفلسفيَّة وطبيعة تشكيلها الجمالي والبنائي والعلاماتي والحركي، إذ استطاع القصب أنْ يلجَ فن الرسم محباً له منذ أنْ جاء الى أكاديميَّة الفنون الجميلة طالباً يبحث عن ذاته في الرسم أولاً كما أخبرني في أحد الأيام وقدم الى قسم الفنون التشكيليَّة، بيد أنَّه اكتشف أنَّ ميوله المسرحيَّة كانت أكثر كفة من ميوله التشكيليَّة، فقرر أنْ يلجأ الى الإخراج المسرحي ليكون بالفعل أحد رواد المسرح العراقي الحديث والمعاصر. أما الرسم فقد ظل شغله الشاغل وبحثه الدؤوب للولوج الى عوالمه السحريَّة وفي ضوء المدارس الفنيَّة وتعدد الأساليب التي اختلفت من الناحية التقنيَّة والفنيَّة والتعبيريَّة ظل القصب يبحث ويبحث ويتقصى، لا سيما بعد أنْ اشتغل في ميدان الصورة والتعبير البلاغي والعلاماتي في معظم أعماله المسرحيَّة المعروفة.
القصب والواقع السحري
إنَّ المتتبع لرسوم القصب يستطيع أنْ يجد روحاً تتفاعل مع الواقع السحري أحياناً بألوانه الظاهرة والكامنة في خياله الخصب محاكياً الواقع الافتراضي على خشبة المسرح التشكيلي (الكانفاس) إنَّه يستعمل الألوان بشكلٍ مشفر مع تسطيحٍ واضحٍ لأغلب شخصياته التي تكون مجتمعة تارة ومنفردة تارة أخرى، في فضاء مسرح اللوحة، فهو المخرج بامتياز يقود فريق الألوان بفرشاته وكأنه في بروفا مسرحيَّة، تتكامل فيها الموسيقى التي تكاد تسمع وتميز نغمات آلاتها من خلال درجات الألوان وتشابكها بهارمونيَّة أحياناً وتضادات تشعرك بصوتٍ صاخبٍ عالٍ يدعو الى التوقف والتقصي عن خلجات ضائعة بين عناصر مسرحيَّة اللوحة.
فالمرأة ترقص وتغني واقفة مع أخريات يبتهجن بغدٍ قادمٍ بسام بألوان تبهج الناظر لتشعره بأنَّ جوليت لا تزال تغني الحب وتنشد السلام ومناجاة حبيبها روميو... فالحب لونٌ وخطٌ وشكلٌ يتمسرحُ فوق الكانفاس، إنه الملك لير منادياً لا أحد يأتي لا أحد هناك.. وفي لوحات مسرحيَّة قصبيَّة أخرى نجد أنَّ الحكاية غامضة أو يشوبها نوعٌ من التشتت، فلا يمكن أنْ نعرف ماذا يجول بخاطر القصب من أفكار جعلته يبني سينوغرافيا فضائه التشكيلي المسرحي بشخصيات متراكبة متداخلة تتنامى نحو الأعلى أو نحو المجهول، وأحياناً تتراكب بوجوهٍ تختلف في حجومها غير المنتظمة وبتسطيحٍ يقترب الى الوحشيَّة بقوة الألوان وحدة الخطوط، بل ويقترب أحياناً الى التكعيبيَّة، وكأنَّ نساء افينيون لبيكاسو قد أعيد تشكيلها من جديد في عرض مسرحي بصوت وموسيقى صاخبة.
الأسلوب ورؤيا القصب
تعدد الأسلوب القصبي في طريقة التعبير والأداء والتقنيَّة في اللوحة الممسرحة،
فتارة يعبر عن هندسيَّة واضحة في بناء شخصيَّة البطل المسرحي في اللوحة جالساً على كرسي أو واقفاً في مكانٍ معين، لتراه في لوحات أخرى قد حدد جنس البطل رجلاً كان أم امرأة وكرسي ثابت في مكانه وكأنَّ
الزمكان متوقف لا يتحرك إلا بمشهدٍ جديدٍ من فصول المسرحيَّة، وهنا يكون القصب واثقاً من إخراجه المتقن في إدارة مسرح اللوحة،
بألغازٍ تدعو المتلقي الى فك تشفيراتها ومضمراتها التي تكاد تشعرنا بوجود نصٍ خفي ما وراء النص البصري، الشخصيات التي تجسد البطولة، بغرائبيَّة نادرة في طاقتها التعبيريَّة.
إنَّه الطلسم الذي يبحث عنه ويحاول أنْ يجد له بنية معبرة وفاعلة في الفضاء المسرحي التشكيلي. إنها تجربة تستحق التأمل والتذوق والدراسة.