تنويعات الاختزال في (كأس لحياة أخرى)

ثقافة 2021/09/23
...

 د. سمير الخليل
 
تتعدد المضامين والرؤى الشعرية في مجموعة (كأس لحياة أخرى) للشاعر نصير الشيخ الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة، وتتأطر في ومضات اختزالية ومقطوعات قصيرة لتعميق المعنى بحساسية ورهافة وتبتعد كثيراً عن الاستطراد والفائض اللفظي، كونها تشتغل على تبئير الفكرة ورصد الجمال وفق مساحة من المتتاليات الصورية والإشارات الميتا شعرية (استعارات وأسماء شخصيات ومدن وحوادث ويوميات) في توليف يجعل من القصيدة وكأنها وصية ولقطة عميقة الدلالة باذخة الأداء مع انتقاء لمفردات تشيع المتعة والبهجة وتعمّق التصور لما يجري في تفاصيل الواقع وتفحص أبعاده ومؤثراته، ونجد اهتمام الشاعر بثنائية (الفكرة والصورة) ويترك عبر اختزال ذكي للمتلقي إكمال أبعاد الصورة وتداعياتها الإيحائية والرمزية والبحث عن المعاني والإشارات الخفية والكامنة في بنيتها العميقة مع الاهتمام بشفافية العناوين ونسق الإيقاع والأداء اللغوي وعذوبة الأسلوب. 
وفي مجمل قصائد المجموعة نجد الشاعر مولعاً بثيمات ومهيمنات تركّز على المرأة بوصفها أيقونة الوجود ونافذة الجمال وسيدة الضوء ومحرّكة الذاكرة، وغالباً ما تكون بعيدة المنال مثل حلم عابر إلى جانب وقفاته في تجسيد وجع الحروب والمنافي وغربة الحياة ولجوئه إلى الاستعارات التاريخية لاختزال فكرة المعاناة والمكابدة اليومية... وتأمل فكرة الفراغ والموت نتيجة تعلّقه بالحياة والديمومة ونضارة الأماني مما يقوده أحياناً إلى ومضات من الحكمة والعرفان وعشق عذرية الطبيعة عبر التغزّل بالمرأة والجمال والبحر وإدانة كل أشكال القبح والاستلاب. في العتبة الأولى يختزل الشاعر في (الإهداء) كل تأملاته واشتغالاته عبر هذه الإشارة «هناك.. وعند التخوم البعيدة ثمة امرأة تلوّح بمنديلها الذي لا نراه» (الإهداء ص4). تظل المرأة هاجساً بعيد المنال وكائناً جمالياً محاطاً بالانتظار والاستحالة مما يجعلها ومضة للاستدلال والتأمل وليس مجرد كائن بيولوجي وحضور عابر، وكأنّه يرمز لوجودها بوصفها هالة وليس وجوداً فيزيقياً. في نص (توق) يقول: (كان يحلم/ بامرأة تتوسده/ وأضغاث سكينةٍ/ في الصّبح صحا/ لم يجد/ غير بكاء أخرس/ وهشيم مدينة...) ص85. 
نجد التعالق الصوري بين المرأة والحلم والسكينة والصبح (والبكاء الأخرس) و (هشيم المدينة) و (ندى البحر) و (مشيمة الحزن).. فالإحالات لا تكشف عن كائن عابر بل هي فكرة محلّقة تحرّك تفاصيل الحياة والطبيعة وتمثل نسقاً وجودياً باذخ الضّوء، وبهذا فالشاعر يؤسس لفكرة (يوتوبيا الجمال الذي تختزله المرأة المعشوقة وبُعدها الذي يزيدها حضوراً في ذاته). وبغيابها تتحول الحياة إلى فراغ والبقايا الحزينة، وله نص بعنوان (حدائق البلور)، يقول فيه: (بقاياك.. لا أقدّم لها الرثاء/ أنا أبكي جراح كلماتي/ وهي في النزع الأخير/ على رفوف أيامك) ص10. ينطلق الشاعر في مساحات التعالق والتأمّل والمقارنة فتكون المرأة مثل حرب لأحاسيس خفية كما نجد في نصّه (بروق): (يكفي الرصاصة شرفاً/ أن تختار قلبي/ لتسكن فيه) ص21 - 22. 
فالمرأة بسحرها وهالتها هي حرب لها تداعياتها والشوق إليها مثل عنف الرصاص والسرفات وهي كما الحرب في كل نهاية تهدي (الفجائع) و (الشظايا العقيمة).. هذا التجسيد التراجيدي وعبر الصور الحسيّة يجعل الشاعر من الإحساس بوجود المرأة ضرورة من ضرورات الحياة المتناغمة والعذبة وبغيابها تبدأ حرب فادحة للفراغ والموت والعدمية وبهذه التصورات تجعل الشاعر ينظر إلى وجود المرأة من خلال ثنائية (الحياة والموت) وهو مولع بالثنائيات الأخرى مثل (الوهم والحقيقة) و (الماضي والحاضر) و (الواقع والحلم) و (الأمل واليأس) في نص (تراجيديا الرمل) نجد: (مبجّلة بالخطايا/ أيتها المانحة/ ليل انطفائي/ اشتعال السنين) ص57. 
تتكرر تفاحة الخطيئة في نص (تراجيد الرمل) كما أسلفنا... ونجد هذه الاستعارة الدالة في نص (إنّهم يحلّقون هناك) لمزج صورة الحرب وتجسيد فكرة المقارنة والخراب والخيانة ضمن هم ميتافيزيقي: (حين -همّت- الطائرات المغيرة/ بقصف نخاع المدينة/ تناثر خلف المرايا دمٌ/ «قُدّ مِن قُبُلٍ» حلم الصغار) ص65. الصورة الشعرية المختزلة تكشف عن اتساع الرؤية واستثمار الاستعارة للتعبير عن قبح وشراسة الموت والحرب ويكمّلها في مقطع آخر من النص نفسه: (في ظل العرش العظيم/ أراهم/ يتسلّقون/ سدرة المنتهى) ص67. 
تطفو كثير من هذه الومضات الفكرية والفلسفية التي تستلهم وتوظف الرموز التاريخية أو الدينية أو العرفانية للوصول إلى دلالة الفكرة المركزية وللمقارنة بين ما حدث وما يحدث عبر الإسقاط والإيحاء وصراع الأضداد الذي يشكّل النَّسغ السّري للوجود والحياة والصّور تتوالى وتتواتر. 
والموت بوصفه نهاية الوجود والحقيقة الساطعة والصادمة تشغل ذهن ومخيلة الشاعر وتتلون صوره فكل شيء ضد الجمال هو موت.. كالحرب والقبح والخيانة والفراغ والانتظار والأحزان (الموت) كما يصف وعلى طريقة (سقراط) في (نصوص الموجة): (نصفٌ لك يا (سقراط)/ ونصف لي../ نصفه المتخم بالسم/ هدية الأقدار لك/ ونصفه الآخر../ سأكرعه حتما لما تبقى من حياة..) ص111. 
ففي المقطع نجد مفارقة الموت، وليس الموت هو الاندثار فقط بل يصوّر الشاعر نوعاً متناسلاً هو موت (لما يتبقى من الحياة) وينتقل إلى فكرة أو مفهوم آخر للموت وفق نظرة وجودية تركّز على أنّ هناك حياة هي في حقيقتها موت رمزي حين تخلو من المعنى ومن الوجود المكتنز بالعطاء والكرامة في نص (عند مضيق البسفور) يقول: (ذرات ماء البحر/ العالق في مناقيرها/ كأنه طواف لا ينتهي/ هي تعرف لون السماء/ وطرق البحر/ وصدأ السفن.. ) ص130. 
تجربة الشيخ في مجموعته (كأس لحياة أخرى) تمثل نوعاً من التحليق الباذخ جسّد تعدديّة في الرؤى والمضامين والثيمات الشعرية وفق مقاربة ارتكزت على دينامكية الاختزال العميق والتقاط نسق من الومضات التي تكشف عن قدرة التجسيد بأقل عدد من الألفاظ لتكوين مساحة شاسعة من الصور والإيحاءات ورمزية الاستعارات لتوكيد معاني وأفكار عبر المقارنة والمفارقة وتفحص الواقع بلغة الجمال والتحسس والاستكناه الدال والعميق إذ اقتضى كل هذا الاشتغال على استلهام طاقة الصورة الشعرية التي تجسد هذه المعاني وتعمّق من تأثيرها في وعي وذائقة المتلقي وتحريك المشاعر بطريقة شفافة عذبة متوّجة بالاحساس والتأمل فجاءت تنويعات مكتنزة لهذا الاختزال وبراعته وأن قصيدة (الومضة) يمكنها أن تحمل أفكاراً ودلالات كبيرة بعيداً عن الثرثرة والاستطراد. 
ونختم بهذه الصورة الشعرية من نص (في الريح صوتك يزدهي) كأنموذج للاشتغال الصوري الأخاذ والعميق: (عشيَّة كلّ حرب/ ثمّة أوطان تتهدَّم/ شوارع تحرثها القنابل/ تلك هي قلوب الأمهات) ص106. 
لا أظن أنّ نصاً شعرياً يصل إلى جمالية هذه الصورة بحرفية نصير الشيخ التي تدين الحرب وتصوّر فجائع الأمهات وهو على المستوى الشخصي عاش ألم الحرب وفجيعة والدته
وأخوته.