عندما يؤلف المثقف كتاباً

فلكلور 2021/09/23
...

 د.حسن عبيد عيسى
قد يبدو هذا العنوان غريباً، فهل ثمة غير المثقف من يؤلف كتاباً؟
الجواب: نعم فهناك من الطارئين على الثقافة والمتطفلين على عرصاتها من ألف عشرين كتاباً، إلا أن هذا الكم من النتاج ليس غير كدس ورق لا قيمة له ولا جدوى، فلا هو وثائق يركن اليها الباحثون، وليس فيه متعة تشد المتلقي، وهو خلو من المعلومات المفيدة.
بينما يتلقى الناس كتاب المثقف بشوق واهتمام لما يعهدونه فيه من فائدة ومتعة، وكان شأني مع كتاب (مدن في حياتي) لمؤلفه المترجم والأديب صلاح السعيد رئيس اتحاد أدباء وكتاب بابل، الذي صدر مؤخرا ًعن دار الفرات للثقافة والإعلام ببابل، ومادته الشيقة تضمنتها مائتين وثلاثين صفحة من القطع المتوسط.
والكتاب الذي هو من صنف أدب الرحلات، تطبّع بطابع كتب هذا الأدب الذي مهر فيه أسلافنا العرب، وسار على هذا النهج مع احتفاظه بخصوصية نكهة السرد الذي عودنا عليه السعيد في كتبه السابقة مع إضافات معرفية، لم يعهدها أجدادنا ممن ألف في هذا المجال، فالمؤلف مترجم ماهر من الانكليزية الى العربية، قدم لقرائه العديد من الكتب ولم يكن الأدب الانكليزي هو اهتمامه الأوحد، إذ ترجم سبعة كتب في مجال الأدب الإنكليزي، وترجم مجموعتين شعريتين من العربية الى الانكليزية، بل ترجم الكثير من الرحلات. وكان أسلوبه في الكتابة رصينا متأتياً من مكنته في مجال الكتابة، خاصة السرد. ولم تكن الهوية الثقافية للسعيد مقتصرة على الترجمة، فهو باحث متمكن من أدواته التي أتاحت له فرصة تقديم العديد من الكتب البحثية للمكتبة العربية، منها ماهو تراثي إذ اهتم مؤلفنا باللهجات الدارجة والأماكن التراثية، بينما فاز كتاب له في مجال الاتثربولجيا بجائزة الشؤون الثقافية.
ولأن المؤلف مولع بالسفر والرحلة منذ نعومة أظفاره كما يوجزنا في مقدمة هذا الكتاب. فإن ثمة فرصا بغضها غير متوقع، فتحت أمامه الطرق سالكة الى العديد من المدن التي عشق بعضها، ولم تجذبه أخرى، بينما كان محايدا في مشاعره مع غير تلك وهذه.
يهمنا أمران في هذا العرض السريع، الأمر الأول هو طبيعة الوصف التي قدم بها السعيد المدن السبع والأربعين التي زارها(زار بعضها ثلاث مرات). والأمر الثاني هو البوصلة التي كانت تضبط اتجاهات حركته في المدن التي وصفها.
فالبوصلة كانت يقوده الى أماكن محددة يقصدها في كل مدينة ويتغيا زيارتها، منها المتاحف بكل أنواعها، ومنها متاحف الآثار، ومتاحف الفن، ومتاحف التاريخ الطبيعي ومتاحف الشمع والمتاحف المتخصصة لمهنة معينة، إضافة الى جامعات عتيدة كأكسفورد وجامعة موسكو، وسواهما، وكذلك أماكن الذكريات كمسقط رأس شكسبير ومدفن الفردوسي وغيرهما، بينما شارك باقي السياح في التمتع برؤية تبديل حرس قصر باكنكهام (مقر ملكة بريطانيا) ومعالم سياحية كثيرة .
ولقد مهر في إيصال صور للمعالم الرئيسية لتلك الأماكن بعد أن يصوغه ممزوجا بمواد الخزين المعرفي الثر الذي تحتفظ به ذاكرته.
أما الأمر الثاني الذي جعل كتابه جديرا بتبوئ مكانه بين كتب أدب الرحلات، فهو طبيعة وصفه لتلك المدن، إذ يسبق ذلك معاناته في بلوغ أغلبها، وهي معاناة لم تخل من دماء وجروح تعرض اليها بسبب إنقلاب حافلة كان يتنقل على متنها، وكاد ذلك الحادث يودي بحياته.. ليبدأ باستلال ما هو مفيد من خزينه المعرفي والثقافي، فيذكر شيئا من تاريخ المدينة منذ تاسيسها، والتطورات الى عاشتها على مدى عمرها، وكيف دارت الحروب والمعارك فيها أو حولها.. ثم طبيعتها الجغرافية وتأثيرات البيئة عليها وعلى سكانها، ومن تلك المداخل السليمة، يلج الى وصف المدينة ،مبانيها ،طرقها أسواقها مياهها.. الخ.
هنا يجوز لنا ويحق له أن نعطي كتابه هذا ميزة على كتب الكثير من الرحالة العرب، فهم لم يبحثوا كثيرا في تاريخ الحواضر التي دونوها في رحلاتهم، ولم يهتموا كثيرا بتأثيرات الموقع والبيئة. 
ونعود الى ما بدأنا به، فعندما يؤلف المثقف ذو الخزين المعرفي والثقافي الثر كتابا، فإنه سيهدي قراءه ما هو مفيد وممتع، ويغني المكتبة العربية بالتليد.