المثقف الداعية

آراء 2021/09/29
...

 د. علي المرهج
هل يصح استخدام هذا المفهوم (المثقف الداعية)؟ وهل يتعارض اللفظان (المثقف/ الداعية) في التداول العام والتداول الأبستميولوجي؟.
 
أهم مهمة للمثقف هي قدرته على تشريح الأفكار ونقدها، ولن تكون الدعوة للإصلاح شرطاً أساسياً من شروط الحكم على كونه مثقفاً أم لا، هذا إذا تحدثنا عن مفهوم المثقف في سياق تكوينه الأبستميولوجي، فهو ينتقد ويُفكك الخطاب ويكشف عن الضعف الكامن والمسكوت عنه فيه، للقارئ أو المتلقي قبول رؤى هذا المفكر أو رفضها بحسب ثقافته ووعيه وتكوين الثقافي والاجتماعي، بل والعقائدي.
يلتقي مفهوم (المثقف الداعية) مع مفهوم (المثقف المصلح)، الذي هو في المضمر يحمل معنى (المثقف العضوي)، الذي يعيش ليكون هو المركز في تغيير الحياة في مجتمعه وفق الايديولوجيا، التي يتبناها واعتقد بها على أنها "عقيدة" خلاص لمجتمعه وللجماهير التي آمنت بمقولاته.
كل ممارسات (المثقف الداعية) و(المثقف المصلح) و(المثقف العضوي) هي ممارسات تشي عن تلاقي هؤلاء حول فكرة الخلاص أو "النجاة"، التي يتبناها "المثقف التبشيري" الذي يعتقد أنه "مثقف رسالي" وفي التبشيري والرسالي ما يشي أن هذا المثقف لا يستمد رؤاه من بناة أفكاره ومن جهده في تثقيف نفسه فقط، بقدر ما يستمده من بعد وحياني يمنحه الثقة أنه جاء ليكون "مُخلصاً" يمتلك طاقة حيوية وجاذبية فيها "كاريزما" تجتذب الجماهير لتلتف حوله.
يختلف "المثقف المصلح" و"المثقف الداعية" و"المثقف الرسالي" و"المثقف التبشيري" عن "المثقف النخبوي"، الذي قد لا يجد في خطابه ما يُناغم الجماهير ولا يستجدي عواطفها ولا يستنهض فيهم الهمم، ليضعهم موضع الخاسرين حينما لا يستجيبون لأطروحاته، وبعضهم يصفه بأنه مثقف يعيش في برجه العاجي، إفلاطوني التفكير، لا يؤمن بأن من مهمات المثقف تبني مقولات الجماهير على كل ما فيها من خلل في العقائد والايديولوجيات وتغييب القدرة العقلية للفرد، ليغيب في الجماعة ويتماهى حتى مع طقوسها وتقاليدها المستحدثة، لأن هذا المثقف يحسب أن مهمته رفع الجمهور والارتقاء به لوعي النخبة، لا خضوع النخبة للوعي الجمي للجمهور، فيكون المثقف أسيرها، فيكون "مثقفاً تبريرياً" كل همه الدفاع عن عقائد الجماعة التي وجد وولد فيها، وكأن كل متبنياتهم المورثة حقائق لا يمكن له المساس بها ولا نقدها، فتكون مهمته الاستجابة لدوافع الجماعة، التي ينتمي إليها في التأصيل الثقافي للهوية المذهبية أو القومية أو العرقية.
في مقابل كل توصيفات "المثقف" السابقة، نجد هناك توصيفا له ما زلنا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة نستبعده من الحضور للتمثيل الثقافي، ألا وهو "المثقف النقدي"، وهو الأقرب لمفهوم المثقف الحر الذي لا يتبنى موقفا للبحث عن موقع، بل يكشف عن واقع المجتمع بكل تمظهراته وعقده السيكولوجية الاجتماعية، بما فيها عُقد المثقف الداعية والجماهيري والمُصلح والتبشري، الذين يعتقدون أنهم هم القادرون وحدهم على قيادة المجتمع لبر الأمان وكل من خالفهم مصيره محتوم، ونهايته تكتبها الجماهير التابعة والمُنقادة لمثل هؤلاء الذين يُسمون أنهم مثقفون.
أمثال هؤلاء المثقفين يعتقدون أنهم مُلّاك الحقيقة وراكبو سفينة النجاة، أما "المثقف النقدي" فهو لا يعلم مصيره ولا يحكم على مصائر المخالفين لهم بأن نهايتهم محتومة، لأنه لا يعرف كتابة النهايات ولا الحقائق والسرديات الكبرى التي يدعيها أمثال المثقف الداعية.
لا يبحث "المثقف النقدي" عن أتباع له وجماهير يلهجون باسمه، وهو ليس "مثقفاً نخبوياً" لأنه يعي حركة التاريخ والواقع ولا ينفصل عنه، لأنه يتحرك ويُحرك فكره من الواقع إلى النظرية، وليس من النظرية إلى النظرية، وأكيد ليس من النظرية إلى الواقع.