عدنان أبوزيد
انطباعاتي التي خلّفتها زيارتي للعراق تشير إلى أنَّ العراقيين يتمنّون أن تتمخّض الانتخابات عن سلطة قوية، وقانون نافذ ونظام مقتدر، بعد تجربة طويلة منذ 2003 طغى فيها الانفلات والفوضى واللا قانون على الكثير من مرافق الحياة.
يسود مفهوم يرسم علاقة بين (قوة الدولة) و(النظام الشمولي) لبرهنة أنَّ الدول الديمقراطية أقرب إلى الضعف والتمزق، لاسيما أنّ ذلك تحقق في دول، بينها العراق.
نقيض ذلك، ديمقراطيات عتيدة شيّدت دولا متطورة مستقرة، في أوروبا والأميركيتين، حتى ان دولا شمولية سارعت إلى اقتفاء الأثر، مثل روسيا التي اضفت الديمقراطية على نظامها، استعاد فيها بوتين "القوة الرأسية"، كما أخذت الصين الشيوعية، جرعات قوية من الديمقراطية. واقع الحال، أنَّ الديمقراطية لا تسمو بالعلاقات السياسية فحسب، بل وتحرّك الاقتصاد أيضا، وهو أمر يغفل عنه كثيرون حين يحصرونها في شأن تكميم الأفواه، وحرية الرأي. أبحاث الاقتصاد السياسي تؤيد وبقوة، سيطرة حكومات ديمقراطية قوية على مقاليد إدارات الدول، بعدما لوحظ أنَّ "الدول الضعيفة" تقترن بالاقتصادات الأقل نموا، ويغيب عنها الحزم في القرار السياسي وفي فرض الضرائب وتنظيم الاقتصاد، وتذليل التحديات الاجتماعية.
لكن القوة المطلوبة هي ليست سلطة الأنظمة الشمولية، حيث جهاز الدولة مسخّر لخدمة الحزب والحاكم.
نقيض ذلك، في الدولة الركيكة حين السلطة غير قادرة على انتزاع حقوق الدولة من المواطن من كُلف الخدمة، وحتى دفع فواتير الماء والطاقة.
الدول العريقة الديمقراطية، تدرك أنَّ المظالم الاقتصادية وردود الفعل الشعبية قد انتهت كمشكلة بسبب إرساء نظام عدالة اجتماعي قوي فضلا عن الاقتصاد القادر على ردم هوة الفقر، والتركيز الآن على ضبط النظام العام وسلطة الدولة، على المواطن والنخب الاقتصادية والشركات الكبرى ورجال الاعمال، وهو أمر لا تتوافر عليه الديمقراطيات الهشة التي انتجت قيادات شعبوية بدلا من زعماء أقوياء.
في العراق افرزت الديمقراطية منذ 2003، تلاشيا للطبقة الوسطى الحضرية، والنخبوية العصامية، وكوادر الدولة المهنية، لصالح شخصيات، ارتقت المناصب بصورة صاعقة، عبر سلالم من المحسوبيات.
صانعو السياسة الدوليون وضعوا مسطرة متساوية– وهو أمر غير عملي- لاحتساب مدى نجاحات انتخابات تنافسية متعددة الأحزاب حتى في المجتمعات الدينية والعشائرية والقبلية، وقد برهنت "الموجة الثالثة" من الدمقرطة في أنحاء العالم من السبعينيات إلى أواخر التسعينيات، أنَّ التفاؤل ممكن في قياسات لإنجازات كوريا الجنوبية، المؤسِّسة لديمقراطية قوية منذ 1987. وفي تايوان، حيث الدولة "الاستبدادية البيروقراطية" تحولت إلى مشاركة مدنية قوية. وفي أوروبا ما بعد الشيوعية، أظهرت دول البلطيق إمكانية النجاح من دون التخطيط المركزي. وفي إندونيسيا، يشتغل مزيج من اللامركزية ونظام الزبائنية الذي حل محل نظام الكليبتوقراطية.
علماء الديمقراطية ينصحون بتحول ديمقراطي، على ايدي زعيم منتخب قوي، يمسك بمركز القرار، لحين نضوج ترسيخ تجربة اللا مركزية في إدارة الدولة.