كما أرادتني الحياة أكون

ثقافة 2019/03/02
...

ياسين طه حافظ 
في أي مدينة، بلدة صغيرة، قرية، ازورها اول مرة، اهتم عادة بما تبقى من الأزمنة فيها. أهتم اكثر بالكنائس القديمة، أو ما قيل كانت معابد أو قبور تقاة. لماذا؟ لا ادري تماماً لكن اشعر ان حاجة، ان معنى، أن صوتاً خفياً يدعوني لأن أبحث عنه، لأن اقترب إليه. هكذا أجد نفسي متجهاً لتلك العزلة، أخيراً، ولذلك الصليب وذلك الممر لأدخل بصمت ثم الركون في مكان، حال الكثيرين يقومون بمثل ذلك. ولكن الفارق بيني وبينهم أني أصل في أوقات لا صلاة، ولا مناسبة ولا زائرين، فأكون منفرداً.
وهنا لا أنجو من أن تلامسني، أجل تلامسني، نظرة تجمع بين الاستفهام واللاتوقع وربما الشك بسوء القصد، فلا يفارق الحذر المكان إلا بعد حين.
لكني خلاف ما ظنوا أجلس بصمت دقائق مثل حجر، لا تفكير، لا تذكّر، لا دعاء، لا أي شيء. صمت، ثم مغادرة بصمت. سلوك شجي، راهب انتبه ليمن قبل وكان حذراً، يودعني الآن بنظرات مودة، بتعاطف واضح ومن يدري لعله تخلص من شاغل فآن ان يمضي ويستقر ...
المساجد الإسلامية في الأزمنة الأخيرة، في بلدي، وبسبب الاختراقات الصعبة، وخشية أن تكون موئلاً لمجرم، قاتل و مفجر أو من يبيّت أمراً ...، صاروا يغلقون أبوابها بعد انتهاء أوقات الصلاة فلا فرصة لأمثالي ممن يريدون ترك العالم واللجوء إلى ظلالها الآمنة .. هناك المكان له هيبة، جلال، سر فيه ومدى يتصل بما هو خارج الأرض، معزولاً عما هو مكدر ولكن مُرْضٍ لتصوراتنا وقناعاتنا التي لا يبدو لها ما يغيرها أو ما نسمح له بتغييرها. هكذا نخمد في القاعة أو في القبة الصامتة وحتى تصير كل أفكارنا موضع شك مرة أخرى، ونحس بحاجة لأن يتكشف لنا ما يضع حداً للغياب الراكد حولنا.
لكن اليس هذي الحال شبيهة بما يكون حين نلوذ بشجرة بعيدة ونستقر تحتها أو حين نختار مصطبة نائية عن الناس في حديقة ونترك ارواحنا تتلمس الطريق إلى ما يطمئنها؟
جلست يوماً على شاطئ نهر، شغلتني اعشاب الماء القريبة من طين الضفة وهي تتمدد في الماء منسابة ولا تبتعد عن الضفة حيث جذرها يستقر. هي تظل ساعات، أياماً، ربما تقضي كل حياتها هناك. 
ما الذي تستطيع أن تفعل غير هذا وقد وجدت نفسها نابتة هناك وقرب الماء، وهناك في هذا العالم الذي تجهله قُدِّر عليها أن تعيش؟ 
عدت احدث نفسي : لكن هكذا كل الشجر، كل حيوان الغاب والصحار، كل الهوام والحشرات وكل دويبة زاحفة على التراب أو متخفية فيه. ماذا تستطيع أن تفعل غير أن تعيش كما وجدت، وكما الحال التي قدرت لها. 
ايتها الضفدعة، أيها الدبور الاحمر، ايها الارنب البري، يا خنزير، ايتها النحلة، يا نحل الأرض، يا قوارض ويا ديدان، يا خلق الله، يا أي حي نعرف له اسماً أو لا نعرف، هل وجدتم حالاً أفضل وادرتم الوجوه عنه؟
دقيقة صمت.. وسألت نفسي، لماذا اهرب لمخاليق وبيئات واتركنا نحن ناس الأرض؟ كل الناس يمارسون فنون خبراتهم، تجاربهم، تماسهم، تدافعهم، خداعهم، أكاذيبهم في العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه. 
أما أولئك القلة هنا، القلة، الافراد، هناك، الذين ملوا الصخب والعراك واللغو والتدافع والركض لا لشيء إلا ليموتوا من بعد، إلا ليتركوا كل شيء ويغادروا، أولاء ادار الحزن أوجههم عن كل شيء! اولاء، أرتضى واحدهم أن يظل صامتاً مستسلماً، ولا شيء مثل عشبة الماء تلك جذرها في طين الضفة وكل جسدها منساب على الماء، ومدى الحياة!
بعد هذا، رأيت نفسي، أنا سجين مكتبتي، بيتي، ولا من يثلم الصمت بزيارة أو بحدث. صمت.. صمت.. انتبهت : هل أنا في حال من العدم؟ صحيح أن النتيجة واحدة لهذا المنعزل في صمته وذلك الذي يلهث ويصرخ ويلتفت ويركض وفي فوضى الألسن وفوضى الأذرع والسيقان عارية ومكسوة، كلهم، كلها تريد تنال ولا تنال. 
لكن ثمة مباهج صغيرة، هزات صغيرة نكسبها في ابتعادنا، يكسبها القلة الذين تركوا الصخب. فأنا هذي الساعة، محتفظ بسلامي ولا ادري بما يخض العالم والناس من فوضى. 
بعد دقائق، وكمن انتهى إلى ما يطمئن ويقنع، قلت : لأكن كما ارادتني الحياة أكون. 
وقد ارادتني مثل عشبة الماء وطير الحديقة والنارنجة في الركن وذلك القنفذ الذي اختار ساعة صمت فخرج للعالم، ثم كأن فزِعَ، ادار وجهه وعاد.