علي لفتة سعيد
ما يميّز الزيارات الدينية في العراق موضوعة مسرح التعزية أو ما يطلق عليه (التشابيه) التي يتم من خلالها تشخيص واقعة الطف وما رافقها من أحداث على شكل تمثيل أو عروض مسرحية بحسب الجهات التي تقوم بهذا العرض الذي يعد أحد أضخم أنواع مسرح الشارع أو المسرح الملحمي لمشاركة المئات من الممثلين سواء على شكل تمثيل واقعة الطف أو على أساس استعراض الشخوص أمام الزوار الذين يقفون على جانبي الطريق ليكونوا مشاهدي العرض المسرحي الذي يعد كذلك واحدا من أقدم المراثي في العالم الإسلامي.
يشير الباحث عباس محسن الجبوري الى أن «التشابيه ومعناها التمثيل، وما ان تطلق هذه الكلمة حتى ينصرف العقل إلى واقعة الطف التي وقعت في 10 محرم عام 61 هـ، والتشابيه هي طقس درامي شعبي، ويسمى أيضاً (الدائرة)، ويعود تاريخ هذه التشابيه كما ذكر السيد عبد الرزاق المقرم في هامش كتابه «مقتل الحسين»، اذ قال (ذكر الدكتور جوزيف الفرنسي في كتاب (الاسلام والمسلمون) الذي نشرت جريدة «الحبل المتين» منه فصلاً في عدد 28: أن التمثيل «التشبيه» تم تداوله بين الشيعة في زمن الصفويين)، علماً ان حكم السلالة الصفوية 907 - 1135 هـ المصادف 1501 - 1736 م ، ويشير الى أن شيخ العراقيين عبد الحسن آل كاشف الغطاء ذكر في الجزء الثاني من كتابه (الأنوار الحسينية والشعائر الاسلامية) أن من أسس تشبيه واقعة الطف هو العلامة المجلسي، في زمن السلطان شاه سليمان الصفوي، وهذا ما جاء به كتاب (النجف الاشرف.. عاداتها وتقاليدها) لمؤلفه طالب علي الشرقي، ويوضح ايضا ان الدكتور علي الوردي له رأي في نشأة «التشابيه» في ايران كما ذكر في الجزء الاولى من كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، فيقول «الظنون أن تمثيل مأساة كربلاء وهو المعروف باسم «التشابيه» لم تنشأ في العهد الصفوي، بل هي نشأت في العهد القاجاري)، ولم يورد الدكتور الوردي دليلاً على ظنه هذا.
العصر الحديث ومنع الشعائر
ويتحدث الباحث الجبوري عن العصر الحديث بعد تأسيس المملكة العراقية عام 1921، اذ أعلنت الحكومة العراقية أن يوم 10 محرم عطلة رسمية في عموم البلاد، وسمحت بإقامة الشعائر، ومنها التشابيه، اذ أقيمت أول تشابيه في مدينة الكاظمية ببغداد وحضرها الملك فيصل الأول، لكن الحال لم يدم كما يقول الجبوري، ففي عام 1934 في حكومة طه الهاشمي منعت الشعائر ومنها التشابيه، ولم يستمر المنع طويلا بسبب معارضة الأهالي واحتجاجهم على القرار وعدم التزامهم بتطبيقه، وفي عام 1936 في حكومة ياسين الهاشمي منعت التشابيه، ما ادى الى اصطدام الأهالي مع الحكومة، ويشير الى انه في عام 1952 سمحت الحكومة بإقامة الشعائر، ومنها «التشابيه» التي استمرت بين مد وجزر مع الحكومات المتتالية إلى عام 1965 حين حاول رئيس الجمهورية عبد السلام عارف منع الشعائر والتشابيه، ولكن فشلت محاولته، وفي عام 1966 في عهد رئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف الجميلي، سمح بإقامة الشعائر بما فيها «التشابيه»، وفي عام 1968 وفي عهد رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر في الأيام الأولى سمحوا بإقامة الشعائر و»التشابيه» وقاموا بدعمها، وعند تمكنهم الكامل من السلطة بدأ المنع التدريجي الى أن اقتصرت على اقامة المآتم في الحسينيات والجوامع، مع مضبطة يقدمها المشرف على إقامة المأتم، تتضمن اسم الخطيب وعنوانه وموضوع بحثه واسماء الحضور، وهذه المضبطة تقدم الى أمن المنطقة للموافقة، وبعض الشعائر كانت تقام سراً في البيوت، لذا توقف العمل على إقامة «التشابيه»، ولكن بعد عام 2003 بدأ عهد جديد من الحرية، ومنها إقامة الشعائر و»التشابيه» على شكل أوسع، وشملت أغلب المحافظات، بل وصلت حتى إلى القرى، ودخلت المؤثرات الصوتية ومكبرات الصوت فيها.
فكرة التشابيه
يتحدث الباحث الجبوري عن كيفية إقامة التشابيه ويختار تشابيه معركة الطف، اذ يقول: تهيّأ ساحة ترابية بمساحة ساحة كرة القدم، ويكون على أحد حافتها مجرى مائي، او يصار الى شق في الارض يملأ فيه الماء إشارة الى نهر «العلقمي»، ثم يهيأ المخيم حيث يتواجد فيه ما يمثل الإمام الحسين (ع) واخوانه وأولاده وأبناء عمومته ونساؤه وأصحابه، وهم يرتدون الملابس الخضراء والبيضاء، مع خيلهم والراية مع أخيه العباس (ع) ويقابل المخيم من الجانب الآخر جيش عبيد الله بن زياد (الجيش الأموي) بين راجل وراكب بملابسهم الحمراء المزركشة وهم كثيرو العدة والعدد بقيادة عمر بن سعد، ويمضي بقوله تبدأ «التشابيه» بركوب الإمام الحسين (ع) ناقته، كونها عالية وبطيئة الحركة، ليخطب من عليها الى المحتشدين ضده والمتهيئين لقتاله، ويذكرهم بنسبه، ودعوته إليهم، ويؤكد على عدم الرضوخ إليهم، ويحذرهم من غضب الجبار، فيرشقونه بالنبال فيعود الى المخيم.
طقوس درامية
مدير اعلام العتبة الحسينية المقدسة، عقيل الشريفي، يقول: ان في العديد من مدن العراق تنتشر خلال زيارة الاربعين ظاهرة فنية تراثية تستحضر في تجسيدها مواقف تاريخية مرت بسبايا معركة الطف المؤلمة وما اعقبها من أحداث ألمت برعايا الامام الحسين (عليه السلام) واصحابه الذين استشهدوا بين يديه.
ويبين: ان هذه الظاهرة الفنية تسمى لدى العراقيين بالتشابيه، وتبادر الى إقامتها مجموعة من المعزّين الذين يتحولون الى ممثلين، لكن القيسي يرى ان التشابيه تعد أحد اقدم المراثي الدرامية في العالم الإسلامي التي يمكن استخدام بعض تكتيكها الفني والملحمي في العرض المسرحي المعاصر، ويوضح: انها تبدأ كطقس درامي مميّز بقافلة الحسين (ع) واسرته ومعها الجمهور الذي سيشاهد هذا الطقس وهم يتجهون الى المكان الذي سيقام فيه والذي يكون عادة في ساحات خاصة للعرض او في الطريق المؤدي الى كربلاء المقدسة اثناء المسير إليها لإحياء زيارة الاربعين تعبيرا عن مسيرة الحسين من المدينة الى كربلاء او مسير السبايا من كربلاء الى الشام.
ويقول الشريفي: ان هذه المراثي لا تعتمد على خشبة مسرح او ديكورات كبيرة، فقط الأزياء وما كان يستخدم في تلك المعركة، ويشير الى أن الممثلين أو المشاركين عادة يقسمون على مجموعتين، الاولى تمثل معسكر الحسين قرب خيامهم او السبايا في ادوار اخرى والتي تميزها الرايات الخضر والسود، والمجموعة الثانية معسكر ابن زياد احد قادة جيش يزيد بن معاوية بأسلحتهم واسواطهم وراياتهم وأزيائهم الملونة التي تتميز بسيادة اللون الأحمر
عليها.