وجدان عبدالعزيز
حين قراءتي لكتاب (جسدها في الحمام) لابتهال بليبل، اخذني العنوان الى معاني ظاهرة، واخرى تتماهى خلف واجهة العنوان، فالظاهر منها التعري والقطرات المنزلقة على تعرجات الجسد المنتشي بتماسه مع الماء، والمعاني المتماهية الاخرى، كأن يكون الجسد في الحمام، وهناك رؤية تتبلور حول الحالة، فالكتابة بروح الأنوثة مغامرة، اجدها قابلة للمرونة اكثر من غيرها، لانها الاقرب الى ناسوت الجسد، اي بشرية الجسد بمقابل اللاهوت "علم الغيب"والباحث عن الروح، والى الخطيئة القديمة وصراع البحث عن طهرانية مضادة، والتي عادة تستحضر الوجه المرئي للكائن في اصطناع لحظات وجوده الإنسي، فالجسد يتلمس في النصوص الادبية افعال الخصب والحلول، كحضور مقابل الفناء والغياب للجسد، وتحليق الروح وخلودها في معارج السماء، فنص الانوثة موضع البحث يكون على هيئة لغة ورؤية من خلال التماس بين الكينونة والجسد، لتكون خطابا يتجدد في المحبة والقوة والمخيال واللذة، كون الأنوثة نزوعا عميقا، نحو أنسنة العالم، الذي يحيل الذات الأنثوية الى ذات فاعلة، لذا عمدت بليبل الى فوضى اللغة وانفلاتها لصناعة مشاهد، تبدو متشظية اول وهلة، لكنها سرعان ما تلتقي عند نقطة حاملة لتلك الدالة، التي تضيء جوانب المعنى، بعد ربط المقدمات بالاضاءات اللاحقة من خلال عملية التأويل، وهكذا سارت الكاتبة على خطين في رحلتها، قد لايلتقيان، لكنهما يتبادلان الادوار، تقول في نصها (المقص كائن مفترس) : (مثل ميثولوجيا وهمية/مثل الحلم/ أوربما
الافتراس.
المقص اليوم ظلي، ظلك.. يظهر توحدنا العشقي.)، ثم تبقى تتماهى بين "الفوق" و"الداخل"، بين مشوار طويل، وتوغل في الضياع، اي هناك غياب وحضور في نفس الوقت، وكأني بالكاتبة تصمت قائلة: "لست أنا"، ويبقى الصراع الذاتي متصاعدا، تقول: (أظهر شيئاً يسحبني بعيدا، وشيئاً يلفت انتباهك ليقربني بطلف. لِمَ أنا؟ بارعة حين يتعلق الامر بالافتراق)، فهي لم تشد الرحال بعد، بل مصابة بخدر المكوث، (كانت تهاجم عابسة الخطوط التي حددتها بالامس ولم تتخطاها)، فألاحظ ان ابتهال بليبل كلما توغلت تحت مظلة الخطين انفتي الذكر، تتوزع ما بين هذا وذاك، (هذه الحياة تبدو في اتجاهين حادين)، ثم تُظهر تأثرا بالمشاهد السينمائية والموسيقية، قائلة: (محاصرة وكل ميولك العشقي يفترسني على نحو غامض، لتصوير مشاهد حياتك في معزوفة)، وهكذا ترسم مشهد المرأة بقميصها الاسود وهي تتبادل الادوار معها.. فقولها: (أنظر الى الرقص على اصابع القدمين يشبه الهذيان الذي يحتوينا)، وقولها: (صرت اقدم ـ راقصة باليه ـ
تتحرك خيباتها).. اذن لم يكن هناك رقص حسي، انما هناك حديث لغوي شعري منفلت،أي ان الشعر والسرد اجتمعا هنا في بوتقة واحدة، لكنها بقيت اسيرة للعنونة (المقص كائن مفترس) تدور حوله...(خصلاتي الذهبية خائفة، تتحرك تلقائيا حول عنقي)، ثم تقول: (مثل الغياب يحوم بجانب قلبك)، ويستمر الصراع بين الحسي واللاحسي، بين المرئي واللامرئي، بين الغياب والحضور، وهنا اجد روح الانوثة المنفعلة، التي تحاول الانفلات من ربقة الاختفاء الى حالة الظهور، حتى ولو كانت مرتبكة غير قارّة، فقولها: (قلقة مضطربة وأنا في النهاية ابدو خطيئة لديه... يرهقني، ومتورطة بوجودي.)، فهذا القلق جعل الكاتبة في موضع اللجوء الى الفوضى اللغوية في النزوع من كنائس جدتها، اي من ورطتها الوجودية، اي محاولة الخروج من ربقة الماضي، والدخول الى الحاضر بحلة اخرى، قد لاتحلو للاخر، انها ثورة انثى تبحث عن طريق للخلاص، لكن ليس تماما، بل تبقى ضمن حدود المقص...فصوت المقص على شعرها، هو صوت الرحيل، (صوته في العناق مسافة الشيطان الذي يسخر من الملائكة)، فذكرت المقص والرحيل والشيطان، دلالة على ذلك القاموس من الممنوعات الاجتماعية.
اما نص (جسدها في الحمام)، الذي حمل عنوان الكتاب، فتجسد فيه وضوح الذاتوية، كهموم كتابية تحاكي الذات بمهارات اللغة، وبالتالي ابراز التجربة الانسانية، وايضا حاملة لتصورات جمالية جديدة، فالتجارب الإنسانية تُقرأ بوعي وموضوعية دون التوقف عن العمل والبحث عن الفرادة.. وهذه العناصر هي المطلوبة لإنجاز مفهوم التجاوز المعرفي والفلسفي للتجارب، التي يمر بها الإنسان سواء أكان فردا أم جماعة.. فالتجارب الإنسانية لن تبلغ رشدها، إلا بفحصها وقراءتها بعمق وتمعن، وفي سياقها التاريخي وضمن شروطها الاجتماعية وظروفها السياسية وآفاقها الثقافية.. لذا اجد الكاتبة قلقة تحاول اثبات ذاتها ثقافيا.. تقول: (كان يجب ان اصير قارئة طالع، لأرى ماخلف الباب).. اذن تحاول اكتشاف ماخلف الاشياء، فكانت تستعمل كلمات (وكثيرا ما اراني، اشبهني، يتعثر كلّي)، تقول: (إني لأخلع الصندل المزين بأربطة الساق بجانب الباب المغلق، اشبهني حينما كنت حافية، اكتشف مسافاتي العارية من مقاسات كاحلي واغطيها بنظراتي قبل ان اتعثر. يتعثر كلّي)، فهي في الحمام تتلفت، وتغطي عريها بنظراتها، لماذا؟، هذا هو المعنى المختفي الذي فيه مجال البحث والتأويل، فالكاتبة عاشت ذاتيتها الخاصة وتجربتها الانسانية، ثم بدأت تثور وتقلق بوجود المعرقلات الاجتماعية لحركتها، فبدأت ثورتها من الحمام عارية، لكن داخل جدران وخلف الباب، اخبرتنا بهذا، ثم بدأت بفوضتها اللغوية الشعرية تستبق الاحداث، ثائرة في امنياتها وفرضياتها.. (لويثبت هذا العالم، لويتحول ويصير مثل تمثال أكدي، هذا الجسم العاري الذي سقط على الارض بعدما سرقوه مرة بعد اخرى)، فرغم ان الجسد محجوب بجدران وباب، غير انه مستباح من الاخر، لذا ترد قائلة: فـ(لقد كان يناسبني أن اقف امامك..) (بعيداً عن الغشاوة...الخ).. اذن الحمام اشكالية حضور امام غياب مزمن تعيشه الكاتبة، كتجربة انسانية صاغتها جماليا من خلال اللغة، تقول: (كنا فتيات، جعلتنا حمالات الصدر بنهود فاجرة بمعتقداتهم، تطبع العتمة عليها مهمات متوهجة باللامبالاة وعقاب الاب..)، فهي تعاني من الاخر ومعتقداته، رغم انها محجوبة وفي عتمة منه (لقد كانت عقولهم المتعسفة تصنع ما يثيرها من حمالات الصدر)، هذا مسار ابتهال بليبل في كتابها (جسدها في الحمام)، انه مسار احتجاجي جمالي رافض للقبح.