مارسيل موسىّ..العقل والاناسة

ثقافة 2019/03/03
...

 
د. رسول محمد رسول
 
تجتهد دار الكتاب الجديد المتحدة بتقديم نصوص مترجمة إلى العربية تبدو على غاية من الأهمية في مجالها، ومن ذلك كتاب عالِم الاجتماع والإناسي؛ بل النياسي الفرنسي مارسيل موسّ1872 - 1950 (تقنيات الجسد ومقالات إناسيّة أخرى) تعود أقدم دراسة فيه إلى مطالع القرن العشرين ترجمها إلى لغة الضاد الدكتور محمد الحاج سالم من تونس.
وعندما تقرأ الكتاب سواء كنتَ متخصصاً في علم الاجتماع أو الإناسة "الأنثروبولوجيا" أو النياسة "الإثنوغرافيا" ستجد نفسك في ترجمة تلاحق متن الكتاب بمزيد من الهوامش التي تنيره بما في المتن من مغاليق دلالية وأخرى شكلية، لا سيما المصطلحية منها، ناهيك عن صعوبات أخرى تحف بالمتن وفلسفة موسّ ذاته، خصوصاً أن نصوص هذا العالِم غير محقّقة في أصل لغاتها التي نُشرت فيها ما دعا المترجم إلى تصحيحات كثيرة بدت ضرورية له وللقارئ، لا سيما تلك التي يحيل عليها موسّ في أثناء كتاباته، ناهيك عن القصور الببليوغرافي الذي يسم ما يكتبه موسّ، وكذلك الملفوظات والمصطلحات الجديدة والغريبة التي يستعملها، ولذلك أغنى المترجم الدكتور محمد سالم متن الترجمة بفهارس ومسارد هي المُعين للقارئ العادي واللبيب وكذلك المتخصص في علم الاجتماع والإناسة والنياسة.
الجسد
الجسد "corps" هو: فاعلية مكتسبة لدى الإنسان - بحسب موسّ - فالجسد يُتعلّم، لهذا يقول المترجم: "إن الجسد البشري إنما يتعلُم مهاراته ويكتسبها اكتساباً بدافع الضرورة الوجودية المادية والرمزية" (ص 5). وهذا يعني لا وجود لمعنى ميتافيزيقي منزل للجسد لا من السماء ولا غيره من عالم المفارق لعالمنا المادي لكون موسّ يقول: "يجب أن ننطلق من الملموسّ نحو المُجرد" (ص 7)، فالصياغة العلمية الاستقرائية مسعى هذا العالِم في رؤيته، ولذلك يتحدّث عن البراعة حتى يقول: "إن البراعة لا يتم تحصيلها إلا ببطء" (ص 9). والبراعة إيّاها تتطلّب فعل تقنية لا يغادر الوسيط النفسي ومن ثم الذاتي الأنوي الذي يمارسه الإنسان، يقول موسّ:  "إن جميع أساليب الفعل ليست سوى تقنيات هي تقنيات الجسد" (ص 16). 
كم أن الجسد هو أول "أدوات الإنسان وأقربها إلى الطبيعة" (ص 17).، و"تقنيات الجسد سابقة على التقنيات الأداتية" (ص 17). وفي معرض حديثه عن أهمية التقنية ودور العرف فيها يرى موسّ أن "التقنية هي: كل فعل عرفي فعّال" (ص 17)، وما يتميز به الإنسان بالدرجة الأولى عن الحيوان هو نقل تقنياته إلى غيره" (ص 17)، وكل ذلك يرتبط بالعلاقة التي لا يريد موسّ أن تغادر أذهاننا بين المعنى النفسي والحياوي أو البيولوجي؛ بل بين علم وظائف الأعضاء وعلم الاجتماع. 
ولهذا، يأخذنا موسّ إلى تصنيفات العلاقة بين تقنيات الجسد وعمر الإنسان، وجنس الإنسان ومهاراته والمردوديّة في كل ذلك، فيتوغّل أكثر في تقنيات جسدية اليد والتوليد والإنجاب والطفل والمراهقة والنوم والراحة والحركة والاستهلاك والتناسل، وكل ذلك تطلّب منه النزول إلى حياوية اجتماعية وفردية وأحياناً شخصية من دون الإذعان إلى جمرة اللاوعي لدى البشر، فكل تقنية يؤدّيها الإنسان تبدو عنده مفكَّر فيها وهي تخرج من سلوك الإنسان.
من الوصف إلى التفسير
يحلو لمارسيل موسّ الإذعان إلى صوت الواقع في حراكه البشري والإنساني والاجتماعي، ومن هنا يأخذنا إلى دراسة علم الشكل الاجتماعي ممثلاً بمتابعة "التغيرات الموسّميّة لمجتمعات الإسكيمو" وهي دراسة استقرائية لحالة مجتمعية، ويؤكِّد في صدر دراسته على أهمية تجاوز مجرّد الوصف إلى "التفسير" (ص 43). بمعنى تفسير "القوام المادي للمجتمعات، أي الشكل الذي تفرزه باستقرارها على الأرض، وحجم وكثافة السكان، والطريقة التي تتوزع بها، وجميع الأشياء التي تُستخدم لاحتضان الحياة الجماعية"، وهو ما نهض به موسّ في هذه الدراسة على نحو خلاب ينطبق على موسّميات أي مجتمع آخر كالمجتمع العراقي مثلًا.
ومن استقراء الواقع الموضوعي في تجلياته المجتمعية ينتقل موسّ إلى "العقل البشري" ويصطفي مقولة "الشخص" ومقولة "الأنا" لكأننا ندخل إلى عوالم لا تخلوا من سياحة عقلية وذهنية ولكن بوعي إناسي لذيذ المنحى مفيد الغاية وحديثه في كل ذلك إنما يعود إلى محاضرة له في لندن تعود إلى سنة 1938 يكرسها لبيان العلاقة بين المنحى السياسي والأخلاقي انتصاراً للوحدة ضد التشرذم والانقسام وقد خلصت أوروبا إلى مشكلات مخيفة كان يشعر بها المؤلف عن كثب. وما يرومه موسّ هو استبدال الفكرة السائدة عن الأنا والعقل بفكرة تصحيحية تستمد كينونتها من "التاريخ الاجتماعي لمقولات العقل البشري" (ص 234). بمعنى "بيان" سلسلة الأشكال التي اتخذتها فكرة الأنا بحسب تكوين البشر لها في حياتهم وفقاً لقوانينها وأديانها وعاداتها وبناها الاجتماعية وعقليتها بعيداً عن أيّة تكريسات فلسفية نعهدها دائماً عندما تتناول مفهوم الأنا وكذلك العقل. ولبيان ذلك نرى موسّ يمعن، استقرائياً، حالات الشخص في جُملة من العشائر في الهند، والشمال الغربي الأمريكي، وأستراليا، والصين في رحلة بحث علمي ترينا الفكر البشري كيف يمشي في المجتمعات.
ويأخذنا المؤلِّف إلى فكرة الموت؛ بل إلى تأثير هذه الفكرة في الفرد حين توحي بها الجماعة بالانطلاق من أن فكرة الموت هي ذات أصل اجتماعي وليست فردي فقط، ويعمل موسّ بدراسة عيناته في كل من أستراليا ونيوزيلندا.
المشاعر
إلى البُعد الاجتماعي للمشاعر ينظر موسّ في دراسته المعنونة "التعبير الإلزامي عن المشاعر"، ويحدِّد المترجم ما نهض به موسّ بقوله: أن موسّ ينظر في المشاعر "لا بوصفها مجرّد ظواهر نفسية أو ظواهر فيسيولوجية؛ بل ظواهر اجتماعية مطبوعة كأشد ما يكون بطابعي التصنع والواجب الأكثر مثالية" (ص 275). ويمضي كل ذلك - بحسب العينات المدروسة - إلى دراسة الشعائر الشفوية الجنائزية في أستراليا.
إلى القرابات المازحة هذه المرة يأخذنا موسّ لينظر في المجتمعات البدائية بأمريكا الشمالية وأستراليا وأفريقيا، وتحديداً في لطائف المزاح بين الأفراد في هذه المجتمعات.
يضم هذا الكتاب، إلى جانب كل ذلك، وثيقة نادرة غير منشورة من ذي قبل دونها موسّ ليروم إلقاءها في المؤتمر الدولي للعلوم الإناسية والنياسية سنة 1938 حول موضوع الحضارة والطبع. يناهز موسّ لنا فيها رؤاه حول استبدال مصطلح "الحضارة" بمصطلح "المجتمع"، كما أنه يُفضّل خطب مقولته: "إن العقلية الجماعية تتجلّى في الفرد" (ص 313). أما الفصل الأخير فانبرى موسّ فيه لممارسة نقد داخلي موجّه لأسطورة إبراهيم بمنظور مُقارن.
هذه صور من رحلة مارسيل موسّ إلى التاريخ والأساطير والمجتمعات وقد أبلى فيها بلاء حسناً بمنظور أنثروبولوجي نياسي ربما اختلف بها عن جهود خاله إميل دوركهايم لكنّه بقي عمله في حياته رهين الواقع الواقعي فيما نظر وفكّر وتأمل وكتب من بحوث.